“درية شفيق “سيدة واحدة بدلا من كل الرجال

الدكتورة درية شفيق  (1908 ـ 1975) شخصية فذة تمتعت صاحبتها بوضوح الرؤية و نبالة المقاصد ، واستشرفت لوطنها وشعبها وجيلها وبنات جنسها آفاق التقدم والارتقاء والحرية ، وكانت على الدوام قبسا من توهجات الحضارة المستنيرة والفهم الذكي الواعي ، وهي شخصية عبقرية بلا شك ، كانت في قدراتها وأدائها موهوبة ومصقولة معا ، فقد كانت شاعرة، ومترجمة، وصحفية مؤسسة، وصاحبة قدرات تنظيمية و تنسيقية، كما تمتعت بحضور متألق و شخصية طاغية في الوقت ذاته ،  وقد حصلت في شبابها على أعلى الدرجات العلمية من السوربون ، وهي بعد هذا كله رائدة  طبيعية من رواد الحركة النسائية العربية، وإن كانت هذه الصفة قد غطت على نجاحها المتميز في المجالات الأخرى بسبب ما بذلته من نفسها من أجل ما آمنت به من معتقدات سياسية ، و وضعتها هذه الصفة عن رضا منها في صف المعارضة السياسية الجادة والنبيلة لنظام ٢٣ يوليو والرئيس عبد الناصر .

نشأتها

ولدت الدكتورة درية شفيق بطنطا في ١٤ ديسمبر 1908، كانت والدتها السيدة رتيبة ناصف من أسرة حسين القصبي أحد قيادات الطبقة الثالثة من الوفد المصري، والتحقت في طنطا بمدرسة نوتردام، وقد توفيت أمها عام 1920 وهي تلد، وخُطبت درية مبكراً لقريب من أقرباء أمها وفسخت خطبتها، واستقر الوالد في القاهرة وبقيت هي وأختها ثريا في طنطا مع جدتهما، ثم انتقل والدها إلي الإسكندرية (1924) فانتقلت درية معه، والتحقت بمدرسة سان فنسان دي بول بالإسكندرية، ثم بمدرسة الليسيه وحصلت علي البكالوريا الفرنسية (1924).

بداية شهرتها

بدأت الدكتورة درية شفيق ظهورها في الحياة العامة عندما ألقت (1928) كلمة في الاحتفال بالذكري العشرين لرحيل قاسم أمين (1863 ـ 1908)، فأعجبت بها الزعيمة النسائية هدي شعراوي وساعدتها علي السفر في منحة حكومية إلي جامعة السوربون بفرنسا (1928)، وسافرت (أغسطس 1928) مع إحدى عشرة فتاة مصرية، وفي باريس أبدت رغبتها المبكرة في دراسة الفلسفة لكن المكتب المصري للبعثات في باريس اعترض، وبعد وساطات وافقت الوزارة، وأخذت تدرس «الفلسفة والاجتماع والأمراض النفسية!» لكنها سرعان ما بدأت تكتب الشعر بالفرنسية، وقرر المكتب المصري إنهاء المنحة وإعادتها إلي مصر، وتحدت درية شفيق قرار المكتب وقررت أن تواصل الدراسة علي نفقتها، وأقامت في الدار الدولية في شارع سان ميشيل، وهي دار للمغتربين من أجل العلم عرفت بالالتزام، واكتفت بوجبة واحدة في اليوم، وقد أعاد المكتب لها المنحة الدراسية مع موافقته علي إقامتها بالدار الدولية لحسن سمعتها.

موقفها الطليعي في ازمة مارس ١٩٥٤

وفي أزمة مارس 1954 كانت الدكتورة درية شفيق من أوائل الذين انتبهوا إلي حقيقة توجه الضباط نحو الدكتاتورية، وانقلاب مجلس القيادة علي الديمقراطية، وكانت حريصة علي بذل كل الجهد من أجل تنبيه الأذهان إلي ما استشعرت وجوده من الخطورة علي مستقبل الديمقراطية.

قادت الدكتورة درية شفيق اعتصاماً في نقابة الصحفيين مع زميلاتها (12 مارس 1954) وأيدتها في الإسكندرية ثريا العجيزي وأمينة شكري، وأبرقت إلى كل الأعضاء المؤسسين لاتحاد بنت النيل، وإلي شيخ الأزهر، وإلي رئيس مجلس الدولة وأعضاء مجلس نقابة الصحفيين، وإلى عدد كبير من مندوبي الصحافة العالمية في مصر، تخبرهم بعزمها على الإضراب عن الطعام احتجاجا على أن اللجنة التأسيسية المزمع تشكيلها لوضع الدستور الجديد للبلاد لم تضم امرأة واحدة، وقالت في برقيتها: «أنا أرفض الخضوع لدستور لم أشارك في صياغته».

واصلت مجلة «بنت النيل» نجاحها وعرضت «دار الهلال» أن تشتري المجلة لكن الدكتورة درية شفيق رفضت العرض، وسرعان ما أغلقها عبد الناصر.

وفي ١٦ يناير 1956 صدر الدستور المؤقت متضمنا منح المرأة المصرية حق التصويت، وعلى الرغم من أنه كان من الممكن لدرية شفيق أن تقود موجة التعبير عن السعادة بهذا الذي تحقق، فإنها أعلنت رفضها للدستور لأنه لم يحدد بالضبط الحقوق السياسية للمرأة.

ومن الطريف أن النظام الناصري في ذلك الوقت وبالمواكبة لإصدار الدستور ألغى كافة التنظيمات الخاصة والتطوعية بما في ذلك «اتحاد بنت النيل» ، كما وضع التنظيمات النسائية تحت إشراف وزارة الشئون الاجتماعية.

إضرابها عن الطعام واعتصامها في السفارة الهندية

وسرعان ما تطورت الأمور وتصاعدت احتجاجاتها واعتصمت الدكتورة درية شفيق في السفارة الهندية وأعلنت ( في ٦  فبراير ١٩٥٧)  إضرابها عن الطعام حتي الموت وقد حرصت علي أن تجعل مطالبها مزدوجة تجمع بين طلب الاستقلال لبلادها وحل القضية الفلسطينية وبين طلب الحرية الكاملة لشعبها من ناحية أخري، وترجمت ذلك بأن طلبت من المجتمع الدولي إجبار القوات الإسرائيلية علي الانسحاب فورا من الأراضي المصرية (وكانت إسرائيل قد بدأت سلسلة مناوشات مبكرة لمصر)، والتوصل إلي حل نهائي لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ومطالبة السلطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة للمصريين رجالا ونساء.

كان من الطبيعي أن يعالج النظام الناصري الأمر بما يضمن له  السيطرة التامة و الباتة علي توجه الدكتورة درية شفيق واحتوائه ومنعها من تكوين بؤرة ليبرالية أو ديمقراطية بينما أوشكت الأوضاع علي الانصياع الكامل للحكم الجديد، ومع هذا فقد تعقدت مشكلة درية شفيق وخلقت موقفا حرجا للنظام المصري وبخاصة أن الزعيم الهندي نهرو لم يكن ليقبل التواطؤ مع النظام المصري ضد درية شفيق. وقد ظهر ذكاء درية شفيق في اختيارها لسفارة دولة كانت صديقة لعبد الناصر والنظام المصري، وفي دعوة عدد كبير من الصحفيين العالميين إلى مبني السفارة من قبل أن تصل، بحيث كان لمؤتمرها الصحفي صدي عالمي مؤثر.

وبعد محاولات كثيرة تمكنت الدولة من صرف الدكتورة درية شفيق إلي بيتها وتحديد إقامتها فيه من دون أن تتعرض لها بإيذاء بدني أو سجن.  وقد حجبت عنها الأضواء تماما طيلة الستينيات، وكانت درية شفيق تشغل وقتها بالترجمة لقاء المكافآت، وأخذت تنجز بعض الكتب وتجمع أشعارها في دواوين، وقد منع ذكر اسمها أو تاريخها نهائياً، وإن بقيت ذكراها ماثلة في أذهان الذين عرفوا نشاطها.

ترجمتها لمعاني القرآن

يروى أن الدكتورة درية شفيق في فترة محنتها بتقييد الحرية في عصر الرئيس عبد الناصر تفرغت لترجمة لمعاني القرآن للغتين الإنجليزية والفرنسية كما جمعت شعرها المكتوب باللغة الفرنسية، لكن هذا و ذاك كان مما أسدل عليه الستار.