السياسة والأخلاق!

غزو العراق

في كتابه (أزمة الأعوام العشرين) انتقد “كار” المثاليين، وقال المثالية: هي تعبير عن الفلسفة السياسية الخاصة بالقوى العظمى الراضية، وكانت ببساطة نتاج مجموعة معينة من الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية، وليست مجموعة قواعد أخلاقية خارجة عن الزمن ومكرسة من أجل أهداف كونية.

وعندما كتب “كار” كتابه ذاك في أواخر العقد الرابع من القرن العشرين، فإنه كان يحذر مواطنيه من مثاليتهم المفرطة في أمور السياسة الخارجية، ويذكرهم بأن التنافس على القوة بين الدول هو جوهر السياسة الدولية.

ولم يذهب “رينولد نيبور” بعيدا عن افهام وأفكار “كار” و”مكيافيللي” و”هوبس”، فهو يعتقد أن مأساة الطبيعة البشرية تتجذر في غريزة الأنانية في الإنسان ورغبته في القوة، حيث إن انقياد العقل للتعصب والعاطفة والأنانية غير العقلانية لا سيما في سلوك الجماعات، كلها أمور تجعل من الصراع الاجتماعي حتميا في التاريخ الإنساني، ربما إلى نهايته البعيدة.

وفي ذات النظرة التشاؤمية بخصوص الطبيعة البشرية، كان “جورج كينان” يعتبر أن الإنسان لا يزال حيوانا! يعتمد بحكم طبيعته الفطرية على القتال.

الرؤية الواقعية السياسية ذات نظرة أحادية في فهم العلاقات الدولية من منطق القوة، وفي فهم مختلف ومتضاد مع المعني المثالي الأخلاقي، وتعتبر المدرسة الواقعية السياسية أن السببية الثابتة التي تصل أحيانا إلى درجات الجزم والحتمية، هي المرتكز الأساسي الذي ينبغي أن تصنع القرارات وتوضع الخطط والمناهج والاستراتيجيات من خلاله، وأن الصراع في المجتمع الدولي إنما حقيقته القوة وزيادتها، لا الأخلاق والمثاليات، وعليه فإن النزاعات والاقتتال والخلافات بين الدول هي سمة دائمة وتوصف بالمعقولية.

لكن أي أخلاق هي التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار أهي أخلاق البشر الذئبية عند “هوبس”، أم أخلاق الشيوعية أم الرأسمالية، ربما تكون عبارة “لويس فيشر” المملؤة بالإحباط واليأس من تلك الأنظمة هي إجابة على هذا التسأول: بعض الناس يقض مضاجعهم ما يقترفه العالم الرأسمالي من جرائم وآثام، فيظلون عميا لا يرون جرائم البلشفية وإفلاسها، وكثير منهم يستغلون نقائض العالم الغربي ليصرفوا الانتباه عن فظائع موسكو البشعة. أما أنا فأقول: لعن الله كليهما”

إذا كانت الأخلاق تؤخذ من البشر وأعرافهم وتقاليدهم وأفكارهم وأنظمتهم، فهي أخلاق لا ترفع الأمم أو تزيد في قوتها، أما إن كانت مستمدة من دين الله لا البشر فهي ترفع الأمم وتزيد في قوتها.

الخلق الإسلامي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القرآن، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ قول الله عز وجل: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ).

وقد حدد الله جل شأنه هذه الموجهات والأخلاق الكريمة قال الله تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [الأنفال:61]، وقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) [النساء :90]، (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [البقرة:190 ].

 إن الأخلاق المرذولة كانت في تدمير العراق

الحقيقة إن ما نشاهده من الحروب والدمار ليس إلا انتهاكا للقوانين والأعراف والمواثيق، أو التفافا عليها وتسمية للأشياء بغير أسمائها، وتضييع لقيم الأخلاق، والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة، إذا تتبعنا كل حادثة وأرجعناها إلى أصولها فإنها لا تخرج عن ذلك، إسرائيل مثلا تزعم أنها في حالة دفاع شرعي عن النفس في الحرب الزبون مع غزة الأبية، مع أن الحقيقة غير ذلك فهي تسمي كيفما رأت، وكيفما شاءت والأصل أنها باغية ومعتدية ودولة احتلال!

إن الأخلاق المرذولة كانت في تدمير العراق، تارة بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل كذبا وبهتانا، وتارة بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وهي الذريعة والوسيلة التي اتخذوها لتدمير هذا البلد المسلم، وسرقة نفطه. البلد الذي كان يقض مضاجع إسرائيل. وهم لا يجدون في قتل الأبرياء والأطفال ما يستحق الوقوف عنده ومحاسبة النفس لهذه الجرائم المنكرة، وعندما سألت “ليسلي شتال” “مادلين أولبرايت” التي كانت سفيرا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة وقتذاك، عن إحساسها تجاه مقتل نصف مليون طفل عراقي أجابت عجوز السوء: نعتقد بأن الثمن كان يستحق.

الأخلاق المتسخة والمنتنة كانت في قتل الفلسطينيين علي مدي عمر الاحتلال الغاشم ، وتطبيق نظام الأبارتايد عليهم واعتقالهم في السجون الإسرائيلية، والاستيلاء على أراضيهم عنوة بتطبيق محاكمهم الباطلة التي لا يعترف بها أحد إلا هم أنفسهم،  وغير ذلك من الجرائم النكراء.

مع ذلك، فان غزة الأبية صمدت في الحرب صمود الأبطال، ليس صمودا وحسب لكنها كشفت عن حقيقة موجعة لإسرائيل ولغيرها، وهي أن ميزان القوى في طريقه للاختلال. وكشفت عن حقيقة موجعة ثانية، وهي أن عرابي الخراب والموت في جمهوريات الموز في المنطقة، صاروا كما اليهود مثلا بمثل وسواء بسواء.