بدر الكبرى ودروس في معاني الشورى

الناظر لأحداث وقعت في معركة بدر وأُحد والخندق كمعارك دونها التاريخ بتفصيل وإسناد لدرجة متناهية من الدقة، لا يجعلنا ننظر إليها كمعارك حدثت في التاريخ وإنما هي من السنة المستنبطة من سيرة الرسول ﷺ في القيادة والإدارة والحكم وتطبيق الشورى وطريقة القرار بالتصويت والرأي والخبرة. لذا فهي ليست أحداثا انقضت بل خلاصات تجعل من الآليات الديمقراطية الحديثة آليات مهمة يستوجب إصلاحها بما يتناسب ومقاصد الشريعة للتطبيق كي لا تأتي بالغث والسمين.

الديمقراطية في الفلسفات القديمة تستثني العبيد لأنهم فاقدو الأهلية وتستثني النساء وكثير من الناس كذلك ولم تك المفضلة في الحكم كنظام لأنها تأتي بالغوغاء، لذا حصر الخيار لاحقا في مجلس الشيوخ بما يشبه الحل والعقد، وهذه أساليب قديمة كلها تعالج واقعها في الخيارات أو صنع القرار.

لهذا عندما استحضرت الرأسمالية الديمقراطية استحضرتها بطريقة الاختيار لمرشحي الأحزاب لا الانتخاب وضمن برنامج حزب، فهي ديمقراطية ممكن أن تعطي شرعية لطاغية أو مستبد أو بمعونة قوانين ليحكم أحدهم مدى الحياة بآلية ديمقراطية والأمثلة موجودة في عصرنا بوضوح لا يحتاج ضرب المثل، فهي ليست آلية ليبرالية وإنما الليبرالية هي الأخرى آلية يدعم النظام الرأسمالي استقراره بها.

وهنا أعطى الحباب موقفا ومكانا للجيش بعين خبير وسارع رسول الله باتباعه …… هنا القرار للخبرة وليس للقائد أو الأكثرية

كانت أموال المهاجرين تشكل جزءا من أموال قافلة أبو سفيان بن حرب، فجاء إذن الشارع بأن الظلم لابد أن يزول، فخرج المهاجرون والأنصار لاسترجاع أموال المهاجرين من القافلة، لكن القافلة غيرت مجراها، وأضحى من خرج في مواجهة مع جيش قريش الذي جاء ليحمي القافلة.

الوضع أصبح من حالة مواجهة قافلة إلى مواجهة جيش، ومن موقف مع المهاجرين والرسول داخل المدينة حيث إن حمايتهم عهد على الأنصار وبيعة داخل المدينة، الآن أصبح الرسول ﷺ خارج حدود البيعة، لم يكن الأنصار منتبهين لهذا الأمر فهم مع رسول الله ﷺ؛ لكن الرسول يدرك أن موقفه الحالي ليس موقف رسول وإنما موقف قائد سياسة وحرب، وإنه خارج حدود ما بايعته الناس عليه، فطلب الرأي، وكان المتكلمون هم المهاجرون أصحاب المعاناة، واستمر بالسؤال فتنبه الأنصار إلى أن قائدهم يريد رأيهم، فقال أميرهم: لعلك تريد الأنصار يا رسول الله، فقال: نعم، فقال قولته المشهورة وهي بيعة جديدة من الأنصار إلى وضع جديد وقرار من حاكم، هنا الرأي لتجديد الصلاحيات والقرار للحاكم.

وعندما وصلوا آبار بدر، وقف الرسول بموضع يتهيأ للقتال فسأله الحباب بن المنذر: أهو وحي أم موقف استراتيجي في القتال فقال الرسول إنه موقف حرب، وهنا أعطى الحباب موقفا ومكانا للجيش بعين خبير وسارع رسول الله باتباعه.. هنا القرار للخبرة وليس للقائد أو الأكثرية.

في معركة أحد عرض الرسول ﷺ أن يبقى في المدينة ويدافع عنها، لكن الأكثرية رأت المواجهة في الخارج، وكان قرار القائد تبعا للأكثرية، ورغم تراجعهم لاحقا إلا أنه اتخذ القرار وفق رأيهم وهو درس في كيفية اتخاذ القرار.

كان ﷺ يتخذ القرار بحكم كونه حاكما وقائدا، ولا يحتج بالرسالة إلا بما ينزل عليه من وحي، فنجد أنه يطبق شروط البيعة دوما، ومنها اتخاذه لموقف حرب وهم خارجون للحج فاحتاج لبيعة شهيرة ببيعة الشجرة، لكن في الصلح كان القرار للقائد في صلح الحديبية أن يكون الصلح وليس الحرب في موضع يحله السلم.

والشورى هي منهج ومفهوم حضاري، والديمقراطية آلية مدنية ولا تعارض بين الآلية والمفهوم

دروس تشير إلى أن الرفعة الإنسانية والرقي بالحكم بأنواع شتى مما يسمى اليوم بالديمقراطية، هي محض آليات قد تصلح للشورى بسعتها، والشورى هي منهج ومفهوم حضاري، والديمقراطية آلية مدنية ولا تعارض بين الآلية والمفهوم، فهي ممكن أن تستخدم لحين استقرار البلاد وإيجاد آلية أخرى تحقق الغرض بلا غش أو مداهنات، بعودة الهوية.

من كل هذا نريد أن نصل إلى أننا بحاجة إلى لغة خطاب جديدة ملائمة للتعبير والعرض والتفكير، بحاجة أن نعرف أن السلم الاجتماعي في أي بلد يرتبط بالسلم العالمي لتقارب المسافات واختصار الزمن ووفرة المعلومة بالتقنيات الحديثة، وأن لنا مصدرا لا يمر عليه الزمن وهو كتاب الله ليس من التاريخ قدومه ولا هو ثيوقراطيا بل هو لبناء إدارة لتحقيق العدل للناس والأهلية لقراراتهم ويقود السلوكيات ولا يبرر التجاوزات، وإن هنالك سيرة تخلفنا عنها في تفسير الكون والإنسان والحياة التي يحملها الفكر القرآني، وهو ليس عنكبوت تمترس بزاوية أو أنه توقف عند زمن في عمق التاريخ، وهذا هو المعنى الحقيقي لكونه صالح لكل زمان ومكان، ففيه قراءات ولغة خطاب لكل زمان وربما في نفس الزمان إن تعددت درجة المدنية وأساليب الحياة المكانية، لذا علينا أن نرتقي إلى المنهج القرآني بعيدا عن القوقعة التي تسببت لنا بكل المآسي والتخلف العمراني والأحزان والتشوه في شخصية الإنسان.