جيل “ما تزوقيني يا ماما”.. عن التناطح بين الأجيال

سي السيد وأولاده

لفت هذا التعبير انتباهي أثناء جلوسي على أحد مقاهي الإسكندرية، لدرجة أني بمجرد ما سمعته بحثت بعينيّ عن من أطلقه، فوجدته رجل خمسيني، ستعرف أول ما تقع عيناك عليه بأنه من الذين ينظرون نظرة استعلائية إلى الأجيال التي تصغرهم في السن، لا لأنهم قدموا للبشرية ما لم يقدمه أحد، ولكن لأنهم يعتقدون أن شباب الأجيال التي تصغرهم شباب مُستهتر لا يمكن الاعتماد عليه لأنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية نفسه، فما بالك إذا أسند إليه مسؤولية الآخرين.

المهم أن الرجل عندما لاحظ أني أبحث عنه بعيني ولمح في وجهي علامات استفهام حول المغزى من تعبيره الذي يصف الجيل الذي أنتمي إليه بــ”جيل ما تزوقيني يا ماما!” أخذ من تلقاء نفسه يشرح عبارته من دون أن يراعي أني أنتمي إلى هذا الجيل فوجه كلماته إليَ قائلًا “لو البلد بتاعتنا يا هندسة دخلت في حرب تانية مع إسرائيل الجيل بتاعكوا هيغني أغنية ما تزوقيني يا ماما!”

تظاهرت آنذاك بعدم الاهتمام بما يقوله، واكتفيت بالإيماء برأسي حتى لا يسترسل أكثر في التقليل من قيمة جيلنا، خاصة لأن عبارته كما لا يخفى على بديهة حضرتك كانت تنطوى على إيحاءات جنسية، وهذا جعلني أحدس أنه رجل بذيء اللسان مثلي، لذلك فمن الممكن أن أرد عليه ردًا لا يروقه فيذكر الوالد والوالدة بما يحلو له، فأرمي أنا جدود جدوده بما يخطر على بالي من شتائم، فيتطور الأمر إلى معركة حامية الوطيس تسفر عن بطحي أو بطحه، المهم أني آثرت السلامة وقصرت الشر، وركزت في المشروب الذي كنت أحتسيه، ولكن سرعان ما انتبهت مرة أخرى إلى حديثه حينما “نكشه” شاب كان يجلس في المقعد الذي يجاورني حين قال له “يا حج أنا عندي 20 سنة وبشتغل وبدرس ومابخدش من أبويا جني”. ارتبك الرجل للحظات ولكنه تمالك نفسه مرة أخرى وقال له “يا ابني أنت حالة استثنائية” ليسدل بعبارته الستار على مشروع نقاش لم يكتمل وينصرف كل منهما إلى حال سبيله.

وذلك لأنه إما لم يكن قد “اصطبح” بعد، أو لأنه منكفئ على ذاته على طريقة الفنان الراحل أحمد راتب في فيلم “صايع بحر”

أعرف أن هناك سؤالا تهكميًّا سيطرأ على ذهنك يقول “وأنت بقى فضلت ساكت من غير ما تدافع عن جيلنا عشان خايف!” أليس هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى نفسك الأمارة بالسوء؟ وأنا من هنا أقول لك عيب عليك يا صديقي، لأني إذا كنت آثرت السلامة فإني آثرتها لأني أعرف مقدمًا أنه لا جدوى من الحديث مع الرجل، فضلًا عن واجبي الإنساني في أن ألتمس إليه الأعذار، فهو بكل تأكيد أطلق كلامه على عواهنه، وذلك لأنه إما لم يكن قد “اصطبح” بعد، أو لأنه منكفئ على ذاته على طريقة الفنان الراحل أحمد راتب في فيلم “صايع بحر”، لذلك فهو جاهل بما يحدث حوله، لأنه لو لم يكن جاهلا لما قال هذا الهُراء، ولعرف أن الجيل الذي يلصق به هذه الاتهامات هو ذاته الجيل الذي ينزف ويستشهد منه في الحرب المحتدمة الآن على الإرهاب، ولعرف أن أبناء هذا الجيل هم الذين يجاهدون الآن في سبيل لقمة العيش حتى ولو اضطروا إلى تنحية شهادتهم الجامعية جانبًا، ولعرف جيدًا أن هذا الجيل هو الذي يدفع ثمن خطايا الأجيال التي سبقته التي كانت تؤثر دائمًا المشي بجانب الحائط إن لم يكن داخله لو أتيحت لها الفرصة على قول الحق في وجه سلطان جائر.

ومن ناحية أخرى فإني أعتقد أن ما قاله هذا الرجل كشف النقاب عن صراع أزلي بين الأجيال وثقه عمنا نجيب محفوظ في ثلاثيته المعروفة باسم “ثلاثية القاهرة”، حين سرد لنا كيف كان ينظر السيد “أحمد عبد الجواد” إلى أبنائه خاصة إلى ابنيه “فهمي” و”كمال” وكيف كان أبناؤه بما فيهم “كمال” ينظرون إلى ابنهم “أحمد” صاحب الأفكار الماركسية، ووثقته ستنا رضوى عاشور في روايتها “سوسن وخديجة”، حين نقلت لنا كيف كانت الأم خديجة يُنظر إليها من قِبل أسرتها قبل أن تتطبع بالطباع السائدة، وتنظر هي نظرة أشد وطأة من النظرة التي كانت تُنظر إليها إلى ابنتها سوسن، ووثقته ستنا لطيفة الزيات في روايتها “الباب المفتوح” حين حكت لنا في روايتها عن نظرة رب الأسرة الساخرة الغاضبة إلى ابنه محمود وابنته ليلى لتمردهما على القيم المجتمعية التي حاول طويلًا أن يرسخها في وجدانهما، لذلك فإن الأمر في تقديري الذي ربما يكون تقدير مختل عبارة عن صراع ما بين الأجيال فكل جيل يرى أنه أجدر من الجيل الذي يأتي بعده، لذلك فأنا لا أخفي عليك أني أخشى أن يأتي اليوم الذي نرمي فيه الأجيال القادمة بذات الاتهامات التي نُرمى بها الآن.