حدوتة منخفض القطارة!

تروي الحكاية أن الحقيقة والكذب التقيا ذات يوم، وبعد تبادل التحية، قال الكذب: يومٌ جميل. تأكّدت الحقيقة من صدق ذلك، فردّت موافقة: إنه بالفعل يوم جميل.

قال الكذب مبتسما: النهر أجمل.

وجّهت الحقيقة نظرها نحو النهر، فتبيّنت أن الكذب قال صدقاً، فحرّكت رأسها موافقة. سارع الكذب نحو الماء، فصاح: الماء جيّد ودافئ، هيا نسبح. لامست الحقيقة الماء للتأكد من دفئه، خلع الاثنان ثيابهما وأخذا يسبحان بكل اطمئنان.

بعد مضيّ قليل من الوقت خرج الكذب مسرّعاً ولبس لباس الحقيقة وانصرف، أما الحقيقة فعجَزت عن ارتداء ملابس الكذب، وأخذت تمشي عارية من غير ملابس. ابتعد عنها الجميع عندما رأوها عارية، ومن شدة حزنها وشعورها بأنها مهجورة، لاذت بقعر بئر كي تستتر… ومن يومها أخذ الناس يفضّلون تقبّل الكذب المقنَّع بلباس الحقيقة على الحقيقة العارية.

وبما أننا شعب رباه العسكر على أن يظل عقله عقل طفل لا هم له بالحياة سوى لقمة تسد جوعه وحكاية ينام عليها فتعالوا أروي لكم إحدى حكايات العسكر وأكبر أكاذيبهم وهي حكاية منخفض القطارة… تلك الكذبة التي نعيشها حتى كتابة هذه الأسطر!

كان يا ما كان في زمان غير الزمان كانت مصر رغم الاحتلال وسيطرة الفرنج على مقادير البلاد والعباد تلقب بسلة غلال أوربا ليس هذا فحسب بل إن بريطانيا الدولة المحتلة كانت مدينة بالمال لمصر، واقترضت أمريكا هي الأخرى وغيرهم من دول أوربا إضافة إلى دول النفط العربية كانت مصر تمدهم بالمساعدات والمال.

ولكن وقف الانجليز مرة أخرى بوجه المشروع ومنعوا تنفيذه

ومنذ أكثر من 100عام وتحديدا عام 1902، قدم كبير مهندسي الري المصريين في السودان مقترحاً بشق قناة تصل نهر الكونغو بأحد روافد النيل بالسودان وشق طريق لها فتصب بمنخفض القطارة، للاستفادة من المياه التي تهدر منه، حيث يلقي النهر ما يزيد عن ألف مليار متر مكعب من مياهه في المحيط الأطلنطي، بخلاف وجود شلالات قوية يمكن من خلالها توليد طاقة كهربائية تكفي القارة الأفريقية كلها، ولكن بريطانيا جمدت الفكرة ولم تسمح بظهورها للنور.

وبعدها بأعوام قليلة ظهرت الفكرة مرة اخرى برؤية جديده بعام 1916حيث طرح البروفيسور هانز بنك أستاذ الجغرافيا بجامعة برلين فكرة مشروع منخفض القطارة ثم انتقلت العدوي إلي البروفيسور جون بول وكيل الجمعية الملكية البريطانية الذي نشر دراسة عنه في عام 1931، وفي العام نفسه لم يتردد حسين سري باشا وكيل وزارة الأشغال في عرضه أمام المجمع العلمي المصري وكانت الفكرة تقوم على شق مجرى للنيل  ليصب الفائض من المياه  في المنخفض بدلا من فقدها في البحر فتتكون دلتا جديدة مكونة اكبر بحيرة مياه عذبة والتي ستكون خزانا مائيا ضخما وبهذا تتحول المنطقة الصحراوية حوله إلى منطقة غابات كما كانت بالأزمان القديمة، فمنطقة منخفض القطارة ومعظم الصحراء الغربية كانت منطقة غابات وكان نهر النيل يجري بها قبل أن يشق طريقه وينحت الصخور ليصب بالبحر المتوسط لذا فتلك المنطقة تطفو فوق أكبر مخزون للمياه العذبة غير المستغلة.

كما أن البحيرة ستكون مصدرا هائلا للثروة السمكية، كما سيتم إنشاء مدن عمرانية وصناعيه وزراعية على أطراف هذا المنخفض ناهيك عن محطات الكهرباء، وسيتم إعادة التوزيع العمراني واستيعاب كم هائل من القوى البشرية المعطلة ويمكن للشركات أن تبيع الأراضي لتدبير قيمة المشروع دون الحاجة للاقتراض.

ولكن أوقف الإنجليز مرة أخرى بوجه المشروع ومنعوا تنفيذه بل وتم اخفاؤه تماما إلى أن عاد للظهور فجأة بثوبه الجديد ليتبناه قواد العسكر بداية من الزعيم الملهم جمال عبد الناصر ولكن بشكل يتناسب مع مصلحة بريطانيا ودول الغرب وليس مع مصلحة مصر وشعبها فبدلا من إنشاء أضخم بحيرة عذبة ودلتا جديدة ومضاعفة الرقعة الزراعية بمصر لأكثر من ضعفين ظهرت بحيرة مالحة عن طريق شق قناة من البحر المتوسط لمنخفض القطارة، ولكن ظهور الفكرة في تلك الفترة ما كان إلا تمهيد لمشروع آخر وهو السد العالي.

ظل كل عسكري يجلس على كرسي الحكم يحكي للشعب نفس القصة قبل النوم واثناء النوم وبعد الاستيقاظ

فكانت بريطانيا تفكر بمشروع لتأكيد فصل السودان عن مصر كما أرادوا من قبل انقلاب 1952 ورفض الملك وقتها أن يتخلى عن السودان وكان هذا من أقوى الأسباب التي جعلت بريطانيا وأمريكا يدبران ذلك الانقلاب، وجاء عبد الناصر ونفذ لهم مبتغاهم بأول سنوات حكمه ليس هذا فحسب بل أرادوا أيضا تقليل مساحة الرقعة الزراعية وإضعاف التربة عن طريق حجب الطمي عن الأراضي فكان إعلان عبد الناصر أن أمريكا وقفت بوجه المشروع وأنه سيتحدى ويبني مشروعا أضخم وهو السد الذي كلف مصر وقتها مليار دولار هو الضربة الثانية التي أضعفت مصر زراعيا.

ومن الزعيم الملهم الى الزعيم المؤمن إلى صاحب الضربة الجوية وأخيرا ظل الله في الأرض طبيب الفلاسفة، ظل كل عسكري يجلس على كرسي الحكم يحكي للشعب نفس القصة قبل النوم وأثناء النوم وبعد الاستيقاظ صاروا يمنوه بالرخاء وانتعاش الاقتصاد والخروج من عنق الزجاجة بعد إتمام المشروع فتحول الشعب كله لسندريلا الخادمة ببيت أبيها المنتظرة لفارس يأخذها من الفقر على حصانه الأبيض.

هذا ما فعله العسكر من وقت استيلائهم على حكم مصر فهم لم يسرقوا الحكم فقط بل أيضا سرقوا لباس الحقيقة وأخفوها قسريا وصاروا يسيرون بكذبهم المرتدي ثوب الحقيقة فيخدعون القاصي والداني مدعين أنهم أولياء الوطن المصلحين.

وتوتة… توتة.. لكن مخلصتش الحدوتة فهذه مجرد عينة من مشاريع العسكر بمصر التي يستنفدون بها مقدرات البلاد فما لم يتم كان سينهض بها وما تم لم نستفد بكل إمكانياته وبحيرة ناصر شاهد على الإهمال وتعمد الإضرار باقتصاد البلاد.