هل اللغة العربية أحد أسباب انحطاطنا؟

نزار قباني

شاهدت قبل عدة أيام بث حواري أدارته صحفية على فيس بوك بين عدة شخصيات لها علاقة باللغات على ما يبدو، حول عجز اللغة العربية الفصحى عن مواكبة تطورات العصر السريعة وعن كونها عقدة انفصام تلازم الإنسان العربي منذ الطفولة؛ إذ ندرس في المؤسسات التعليمية بالفصحى ونتحدث على قنوات الإعلام وفي البرامج العلمية والثقافية غالبا بالفصحى بينما تحتل اللهجات العامية المساحة الأكبر من حياتنا اليومية وبها تعلو قدراتنا على التعبير برشاقة وعفوية أكثر.

فالحل هنا بحسب فهمي من الحوار الضبابي ضائع الهوية الذي تابعت جزءا منه، أن نرمي الفصحى في الدرج لأنها لغة تراث وعصور قديمة وعاجزة عن التطور ونسلّم أنفسنا إما إلى لغة أجنبية تقبلنا لاجئين بين مفرداتها – كوننا اعتدنا على اللجوء والتبعية – أو نتبنى العامية بشكل رسمي، وهكذا نتخلص من عقدة الفصحى التي تطاردنا بمخالبها الحادة المشحوذة بحجارة القرون الوسطى مثل غول وحشي.

رأيي كإنسان عربي يحب اللغة العربية واللهجات العربية:

اللغة أكبر من كلمات وأحرف ومجموعة أصوات، اللغة تحمل هوية الفرد والمجتمع وتاريخه وحاضره ومستقبله، وتشكل الجزء الأكبر من وعيه ومهارته الإبداعية ونظرته للحياة والذات وأيضا من قدرته على فهم ما يجول في صدره من مشاعر وعواطف وبالتالي تعطيه معرفة أكبر تمكنه من التعامل مع الحياة بشكل أفضل وأوعى.

بحسب دراسة قرأتها منذ عدة سنوات أن الطفل المولود لعائلة تتكلم العربية يصل بشكل أسرع لدرجة من الوعي تمكنه من ادراك وتمييز هويته، أي جنسه – ذكر أو أنثى – بسبب وجود ضمير يخاطب ويُشار به إلى كل جنس، بينما أطفال من يتحدثون اللغة الإنجليزية يصلون إلى تلك المعرفة بعد الطفل متكلم العربية أو العبرية أو أي لغة تفصل بين الجنسين بما يعادل الستة أشهر، وأطفال اللغات التي لا تحتوي سوى على ضمير واحد فقط يُشار به إلى الجنسين، كاللغة التركية مثلا، لا يصلون إلى درجة الوعي تلك إلا بعد سنة من نظائرهم أطفال اللغات ثنائية الضمير.

وهذا أحد انعكاسات اللغة على الوعي البشري والقدرات المعرفية لديه، وعليه يمكننا قياس درجات أكبر من الوعي تتسبب اللغة بتشكيلها وصقلها.

فأي عامية سنختار وكل قرية لها لهجتها وكل مدينة لها لسانها المختلف عن غيرها؟!

واللغة العربية ليست لغة الأمس بل هي لغة تمتد في الماضي لعشرات القرون وهي أحد أغنى اللغات إذ تتوفر على ما يزيد على 12 مليون كلمة في معجمها، وبالتالي وعي أكبر ومعرفة أكبر لدى من يتحدثون بها. وقدرة ذاتية تتمتع بها تساعد على التجدد والتطور، فهذه الـ 12 مليون كلمة لم تولد في يوم واحد من رحم هذه اللغة.

والفصحى هي أحد أقوى الروابط التي تجمع بين 400 مليون إنسان تقريبا يعيشون في قلب العالم وفي أغنى بقعه وأكثرها عراقة على مر التاريخ، وإن كانوا يمرون اليوم بمرحلة فرقة وتنازع، وبانحطاط ثقافي وعلمي وسياسي واقتصادي، إلا أن اللغة العربية الفصحى هي التي تشكل عقدة الوصل بيني أنا الدمشقي الشامي وبين المواطن المغربي أو العراقي أو المصري. بالإضافة إلى أن اللهجات تفتقر إلى القدرة على التطور من دون أن تدخل إليها كلمات أجنبية كما هي، لعدم وجود قواعد لأنها ببساطة لهجة محكية ترتبط بالفصحى ارتباط الرضيع بثدي أمه.

ولنقل إننا قررنا تبني العامية بشكل رسمي عوضا عن العربية الفصحى، فأي عامية سنختار وكل قرية لها لهجتها وكل مدينة لها لسانها المختلف عن غيرها؟!

وعن ادعاء عجز اللغة العربية عن التطور.. فباعتقادي أن الشاعر نزار قباني ببساطة أثبت لنا هشاشة هذا الادعاء بكل قصيدة كتبها وبكل حوار سجله وكل خطاب أرسله إلى صديق، فلغة قباني الشعرية هي أحد أهم الأدلة والبراهين على قدرة اللغة العربية الفصحى – التراثية – على ولادة لغات عصرية غنية بديعة متكاملة سلسة على اللسان الحديث وقريبة من كافة فئات المجتمع مع اختلاف درجات تعليمهم وتحصيلهم العلمي والأكاديمي.

أرى أولاد هذه اللغة يحشدون الحجج والأدلة لكي يجدوا عذرا لأنفسهم أمامنا عندما لا يعرفون أن ينطقوا جملة واحدة بشكل صحيح

وما عجز اللغة العربية وفشلها اليوم عن تلبية احتياجاتنا أمام هذا الكم الهائل والسريع من التطورات العلمية والتكنولوجية الذي نشهدها إلا فصل آخر حزين مرعب من مسلسل انحطاطنا وانهياراتنا في العالم العربي في كافة المجالات، وفشلنا في استخدام الأدوات الفريدة التي تتميز بها لغتنا في تطويرها وفقداننا لأدباء وكتّاب وشعراء ولغويين يعيدون تشكيل اللغة بما يناسب عصرنا الحالي.

وفي النهاية، بقدر الفرح الكبير الذي يعتريني عندما أرى حماس وشغف أجنبي وهو يتعلم العربية ويفاخر بها ويحدثني عن غنى وعراقة لغتي، بقدر ما أحزن عندما أرى أولاد هذه اللغة يحشدون الحجج والأدلة لكي يجدوا عذرا لأنفسهم أمامنا عندما لا يعرفون أن ينطقوا جملة واحدة بشكل صحيح، وهذا أحد الأسباب التي أفصحت عنها المحاورة في تلك الندوة والتي تدفعنا للتخلص من الفصحى بشكل رسمي لصالح “اللغة السورية” كما سمّتها.