العنف الرقمي ضد المرأة

الانخراط في العوالم الافتراضية

تبين الدراسات والأبحاث العلمية والفكرية أن التاريخ عرف نوعين من العنف بشكل عام؛ وهما العنف المادي(السياسي) والاقتصادي، حتى حدا الأمر بالمفكرين “كارل ماركس وفريدريك انجلز” إلى الاتفاق على أن التاريخ يتقدم بفعل لون من ألوان العنف وهو الصراع؛ الذي تترتب عنه ثورات اجتماعية تتمخض عنها أنظمة سياسية جديدة وأنماط اقتصادية حديثة.. وبالعنف وأشكاله الرمزية والاقتصادية والسياسية والمادية…، تتهاوى العروش، وتتسع الفجوة ما بين الحاكم والمحكومين، وتتفكك الأسر، وتعم الفوضى، وينتشر الخوف، ويتمركز الفرد حول ذاته، ويتقوقع في عزلته، ويُحرم من حريته، ويستسلم لانكساراته، وربما يجنح إلى ممارسة العنف على ذاته أو تصريفه إلى الخارج بطرق غير صحية وغير عقلانية تهدد الأمن والاستقرار النفسي للآخرين…

ولأن العنف ألوان وأشكال، فإن الحياة الجديدة التي نعيشها اليوم امتدت عن ما هو مادي، لتقوم بإدماج ما هو رقمي افتراضي؛ حيث أصبحت الحياة على الشاشة تتقاطع مع الحياة الواقعية، وأضحت أحداث الحياة الواقعية تُعكس بكل تفاصيلها في العوالم الافتراضية…، وقد يروج لأحداث في الانترنت وتنفذ في أرض الواقع أو العكس…، وهذا ما تترجمه “الهجرة الجماعية” إلى شبكات اجتماعية “انترنيتية”، حيث يتلاشى فيها الزمن، وتنكسر القيود، وتضمحل الخصوصية، ويتضاءل الأمن المعلوماتي، وينفلت الفرد من رقابة المجتمع وقيمه، ويغيب التوجيه، وتُفقد بوصلة كل هدف..، وهذا جملة من سلوكات تزكيها بعض الدراسات التي تشير إلى أن 30%  من الوقت(الزمن) يقضيها المستخدم في التصفح بدون هدف(1)…. ومن بين المظاهر الأكثر تمييزا للحياة الافتراضية الممتدة تحضر ظاهر العنف في اشكالها الرقمية، وتكون أضرارها على المستخدم أو المستخدمة أو “الفرد الإنترنيتي” أكثر ايلاما وتوغلا في النفس من العنف المادي الواقعي، انه لون جديد من العنف يمكن نعته بالعنف الرقمي…

فضلا عن انتهاك الخصوصية بقرصنة الحسابات، وطلب فدية مالية أو التهديد بالاختطاف والاغتصاب

يمثل العنف الافتراضي/الرقمي العنصر الرابع الذي سينضاف إلى العنف الواقعي، والمتخيل والرمزي. وهذا الشكل يمكن أن نطلق عليه العنف النفسي أيضا، حيث يأخذ مجموعة من الأشكال مثل الابتزاز بنشر فيديوهات أو صور مركبة أو مفبركة أو حقيقية، وكذلك عنف تعكسه التعليقات أو المحادثات وما تتضمنه من ابتزاز وايحاءات وتهديد واغواء، وردات فعل انتقامية أو تحريضية…، هذا فضلا عن انتهاك الخصوصية بقرصنة الحسابات، وطلب فدية مالية أو التهديد بالاختطاف والاغتصاب… ومع انشتار تكنولوجيا المعلوميات والتواصل وسهولة استعمالها والولوج إليها بهوية مرنة ازدادت حدة هذا العنف، وهو عنف يطال جميع مستخدمي الانترنت، من اطفال وراشدين، رجالا ونساء…، يبقى الحظ الأوفر من هذا العنف موجه الى المرأة بصفة عامة. وقد أصبح الكثير من شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع “الإنترنيتية” متضمنة لمحتويات لا حصر لها تسيء للمرأة وتصورها بشكل يخالف كثيرا الذوق العام، وهي الصورة التي كرستها وتكرسها بشكل جلي الصناعة “البورنوغرافية” التي انحرفت بالعلاقات الانسانية عن معناها الأصيل وأسُسِها الشرعية، وممارساتها الطبيعية.

تجعل الشبكات الاجتماعية “الإنترنيتية” المرأة تتمثل ذاتها بشكل مثالي، مما يجعلها تنساق أمام مغريات الانترنت والحياة الخادعة على الشاشة، وتنحر وراء المنطق الربحي الاشهاري الذي يستثمر في الجسد وكل اشكال الاثارة…، وتنخرط في العوالم الافتراضية بكل عفوية، وتتشارك صورها أحيانا مع الأصدقاء المقربين أو البعيدين، أو تتبادل الرسائل والمحادثات مع مجهولين، بدافع التعرف واقامة علاقات وصداقات قد تترجم واقعيا..، أو ربما تسعى إلى تحقيق أرباح مادية من خلال انشاء قنوات أو صفحات “انترنيتية” تصرف من خلالها بعض من روتينها وأحداث حياتها اليومية، أو الولوج إلى المجموعات الخاصة والتعبير عن بعض القضايا والهموم الشخصية والحياتية… وفي كلتا الحالات تعتقد المرأة أنها تتحمل بشكل أو آخر جزءا كبيرا مما تتعرض له من عنف رقمي داخل شبكات التواصل الاجتماعي، فتمثلاتها الخاطئة للجسد والعلاقات الافتراضية والسعي وراء الشهرة أو اقامات علاقات يؤدي بها إلى انتهاك خصوصيتها المسيجة بكثير من السرية في الواقع، لكن هذه الخصوصية يتم مشاركتها بشكل شعوري أو لا شعوي في العوالم الافتراضية بكل اعتباطية وسذاجة أحيانا كثيرة. وربما يكون هذا سببا كبيرا في سكوتها عن كثير مما تتعرض له من مضايقات وعنف ومساومة وابتزاز في العالم الرقمي، صمت ربما تكون خلفه اكراهات لاشعورية تذكيها فكرة تحميلها المسؤولية، ويشرعنها الخوف من تلطيخ السمعة وتشويه الصورة.

وللتصدي للعنف الرقمي لابد من مرونة في القاعدة القانونية ومواكبتها لما تفرزه الشبكات

ان الحياة الخادعة على شبكات التواصل الاجتماعي تدفع إلى تبني تمثلات وقوالب نمطية جاهزة حول الذات الأنثوية، تجعلها تنغمس بكل قوة في هذه العوالم، منسلة بنفسها من القيم الواقعية ومنفلتة من جميع القيود الاجتماعية، ومتخلصة من كل رقابة ذاتية…، إذ أن الانترنت بتطبيقاته التكنو-اجتماعية يساهم في عكس الصورة الحقيقة لشخصية الانسان بصفة عامة، والمرأة في هذا السياق بصفة خاصة. وهكذا تكون المرأة ضحية بشكل لاشعوري لسلوكاتها وتصرفاتها، واثار تصفحها وتفاعلها في شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب غياب ثقافة للتعامل مع التكنولوجيا الرقمية، ولأن تأثيرات هذه الأخيرة ومحتواها الترفيهي والتشويقي يغري بشكل كبير جميع أنماط الشخصية…

وللتصدي للعنف الرقمي لابد من مرونة في القاعدة القانونية ومواكبتها لما تفرزه الشبكات من سلوكات منحرفة.. وأفعال اجرامية تسيء إلى المرأة، أو تمثل شكل من أشكال العنف ضدها، والتي قد تترجم في أرض الواقع أو يروج لها على الإنترنت،. كما يجب بناء استراتيجية مستمرة ومتجددة، لمكافحة العنف ضد المرأة بجميع أشكاله، ومشاركة تجارب مراكز الانصات الناجحة، وخلق المزيد من مراكز الاستماع والمواكبة النفسية والوساطة في المدارس والمستشفيات والنوادي والمراكز الاجتماعية، وبمقرات الشرطة…، للتصدي لهذه الظاهرة التي تزداد حدتها بتعقد السياقات الاجتماعية والاقتصادية وتنامي النزعة الفردانية، واتساع الهوة ما بين أفراد المجتمع والأسرة الواحدة. كما يجب العمل على تدقيق الاحصائيات حول النساء المعنفات افتراضيا، وهدم التمثلات الذاتية المشوهة التي تجعل المرأة تعتصم بالصمت كلما تعرضت لأشكال من التعنيف ظنا منها أنها مذنبة أو تتحمل جزءا من المسؤولية فيما تعرضت له..، مما يجعلها تتمركز حول ذاتها وتنكمش حول نفسها كاظمة حزنها ومرارة ألمها في كل مرة تتعرض فيها لأشكال من العنف كيفما كانت طبيعتها مادية أو معنوية أو جنسية أو افتراضية، الأمر الذي سيسمح بإعادة التوازن للمرأة وأخذها لمكانتها الريادية في ركب التنمية والتطور وبناء مجتمع متوازن تربويا وأخلاقيا وقيميا وفكريا ونفسيا…