لماذا أصبح مال الدولة المصرية مباحاً وسداحاً مداحاً منذ الستينات

وصل الأمر ببعض الوظائف و المهن أن تتقاضي مقابل عملها 40 ساعة يومياً

عبد الناصر في زيارة لوحدات القطاع العام

من الواضح لكل ذي عينين أن النظام الناصري انشغل بتأمين وجوده وسلطته عن العناية بالمال العام بالقدر نفسه، والدلائل كثيرة منها أن دور ديوان المحاسبة (الذي تعدل اسمه ليكون الجهاز المركزي للمحاسبات) قد ضعف بعد الذروة التي كان قد وصلها على يد محمود محمد محمود باشا، وعلى الرغم من أن اثنين من أعضاء مجلس قيادة الثورة وهما زكريا والشافعي قد توليا رئاسة الجهاز في الستينات.

لماذا تقبلت الناصرية فكرة افساد القطاع العام

باستقصاء التاريخ المصري المعاصر يمكن لنا أن نقول إن هناك أسباباً سولت للدولة إفساد القطاع العام بتعيين بعض المحاسيب بل وبعض المطاريد على قمة شركاته ويمكننا أن نلخص ثلاثة أسباب:

  • السبب الأول: شغل الناس بالفساد ثم بالإصلاح والايحاء بأن هذا من طبع الحياة، وأن المسؤولين لا يكفون عن بذل جهدهم من أجل الإصلاح، وهو سبب وجيه بالطبع.
  • السبب الثاني: إفساد مؤسسات تري الدولة في إفسادها مصلحة مهمة لها لأنها تستفيد من هذا الإفساد في الدعوة إلى مبادئ جديدة تتفق مع آلياتها في إدارة الحكم. وعلي سبيل المثال والاختصار المقرب للصورة فحسب، فإن استمرار الانفتاح علي استيراد السيارات المصنعة في الخارج لا يمكن أن يتم إلا مع إفساد صناعة (تجميع) السيارات الوطنية، والصناعات المغذية لها، وإلا كان الانفتاح سفها مع أن صناعة (تجميع) السيارات ليست كيمياء، ولا سرا حربياً كبيرا ً.
  •   السبب الثالث: فتح الباب أمام طاقات الصراع السياسي والاجتماعي والعائلي كي تفرغ طاقاتها في هذه الصراعات المحلية والإقليمية هنا وهناك، على نحو ما كان يحدث مع عيسى شاهين في الإسكندرية، أو فؤاد أبو زغلة في حلوان، أو البكري في المحلة، وهي صراعات دفعت الشخصيات البارزة ثمنها، كما دفعت الصناعات البارزة ضريبتها

كما لو أن هناك حرص على نشر جو الفساد

يري المؤرخ للحياة الاجتماعية وقائع الفساد المرتبط بالمال العام متناثرة ومنتشرة أيضا، حتي حدثت ثورة 25 يناير فكشفت عن حقيقة أهم من هذا كله، وهي وجود الحرص علي نشر جو الفساد حتي لا يصبح هناك إنسان غير فاسد، وحتي يصبح الفساد هو المنهج المسيطر علي الحياة الوظيفية في كل مجال، حتي وصل الأمر ببعض الوظائف و المهن أن تتقاضي مقابل عملها 40 ساعة يومياً، مع أن اليوم فيه 24 ساعة فقط، و وصل الأمر ببعض المهن الأخرى أن تتقاضي مقابل عملها مائتي ساعة في اليوم، بل ومائتين وأربعين ساعة في اليوم.

ولست أنكر أن الأمور سارت في كثير من الطرق المفسدة على أنها حلول لا بد منها للجمود البيروقراطي، لكن الانفلات المصري قلب عقاقير الحلول إلى مواد مسرطنة أو مسببة للأورام، حتى إني أعرف موظفا كان حريصا على أن يصرف لنفسه أجراً إضافياً يوازي ألفا في المائة من راتبه الإجمالي، هذا بالإضافة إلي سرقاته الفاحشة!

كيف تزايد معدل إهدار المال العام

فيما قبل 1952 كانت الحدود واضحة ما بين العام والخاص، ومن الحق أن نقول إن الدولة المصرية [كدولة] ظلت تعاني منذ أدخلت نفسها في إدارة المال العام، ومن العجيب أن معاناة الدولة لم تنشأ إلا من أخطائها، وبالتحديد من أخطائها المقصودة

تعيين غير الأكفاء في مواقع المسئولية المتقدمة

أول هذه الأخطاء المقصودة هو تعيين غير الأكفاء في مواقع المسؤولية لمتقدمة، سواء في ذلك المسئولية الفنية، أو المسؤولية الإدارية والمالية، ومن العجيب أن الشعب أو العاملين أو المتعاملين نبهوا الحكومة في كل حالة من حالات الفساد التي شابت أداء قيادات مسؤولة عن المال العام، لكن الحكومة في رياستها العليا كانت تنظر إلي الأمور نظرة استخفاف في كثير من الأحيان، ونظرة إجرام في الأحيان الأخرى.

طغيان الفساد الممنهج في القطاع العام

تحفل مذكرات وذكريات كل مَنْ كتبوا تراجمهم الذاتية بمعاناتهم مع هذا الفساد، ومحاولاتهم وقفه عند حده، لكن استجابة الدولة كانت سلبية في الغالب، بل كانت تعلن بكل وضوح عن تأييدها للفاسدين.

وعلى سبيل المثال فإن بوسع القارئ أن يعود إلى ما لخصناه في كتابنا «محاكمة ثورة يوليو» من تقارير النائب العام محمد عبد السلام عن الفساد الضارب بأطنابه في القطاع العام في الستينيات.

كذلك فإن بوسع القارئ أن يقرأ ما أوردناه علي لسان اليساريين أنفسهم من انفعال متصل و خيبة أمل متضاعفة بما كانوا يرونه من فساد ممنهج في القطاع العام، وقد نقلنا في كتابنا «تحت الأرض وفوق الأرض» ملخصا لتجربة الدكتور رءوف عباس مع واحد من أقارب كبار المسؤولين في عهد الرئيس عبد الناصر نفسه ، وقل مثل هذا عما رويناه و تدارسناه في عدد من كتبنا : “أهل الثقة و أهل الخبرة” ، “عسكرة الحياة المدنية” ، “في خدمة السلطة” ، “يساريون في عصر اليمين” ، “الهندسة المستأنسة في غياب الديموقراطية ”

مكافأة المحاسيب

وفي كل الأحوال فإن أنظمة 1952 تركت أيدي المحاسيب والأقارب والأنصار والمتصلين بالأجهزة السرية، تعبث في القطاع العام وغيره من مؤسسات المال ، وقد وصل العبث إلي الحد الذي لخصه قول منسوب (بطريقة كوميدية لا تخلو من صراحة) إلي أحد الرؤساء حين عين أحد مساعديه في شركة كبيرة، وقال له  «عندك هذه الشركة التي عيناك رئيسا لها : اسرق منها ما تشاء  ، كما تشاء  ، أينما تشاء ،  وكيفما تشاء  » ، وقد عمل الرجل بالنصيحة .

وقد قال أحد العقلاء: «لقد كان في وسع الدولة أن تمنح محاسيبها معاشات واستثناءات ضخمة وتنقذ القطاع العام في الوقت ذاته، وتحافظ علي المال العام أيضا»، لكن واحدا ممن هم أكثر اتصالا بالحياة الواقعية رد عليه بقوله: إن الإفساد نفسه كان مقصودا.

إرهاب الساسة والتكنوقراطيين بالتفصيلات الاقتصادية

كان للرئيس عبد الناصر أسلوب فريد في إغراق التكنوقراطيين في سياسات الإدارة الاقتصادية وما يتصل بها من العمل البيروقراطي اليومي، وكأنما كانوا سحرة قادرين على أن يحلوا له مشكلات التمويل والإدارة بضغطة زر. نعرف أن هذا قد يكون ممكنا على مستوى مشروع لكنه بالطبع مستحيل في حالة الدولة لكن عبد الناصر ظل يحاول في هذا الطريق وبصفة مكثفة في سنواته الأخيرة وهو ما دفعه الى التخلي عن معونة الدكتور القيسوني وذلك برضا الدكتور القيسوني نفسه بل ربما بقبوله هو نفسه لفكرة توقف استمراره مع الرئيس عبد الناصر.

الاعتماد على الاختناق في السلع المدعومة في تقليل الدعم

كانت هذه الإشكالية تمثل إحدى الروايات الشائعة في الشارع المصري في الحقبة الناصرية ، ومن نافلة القول أن تواتر مثل هذه الفكرة أمر طبيعي كما أن مناقشتها تمثل نوعا من التزيد ، لكنها تبقى بمثابة قلق متجدد .

لماذا تعود الاقتصاد الناصري الارتباك مع زيادة الطلب

يمكن النظر إلي هذا الموضوع علي أنه من “الطرائف” التي أضفتها العقلية الناصرية على  الصناعة المصرية، بل من طرائف الاقتصاد المصري كله ، ذلك أن الاقتصاد المصري منذ العهد الناصري تعود الارتباك مع أية زيادة في الطلب ، و لا تزال هذه السمة تسيطر على مؤسسات التصنيع والخدمات على حد سواء وهو ما يحدث بطريقة مثيرة في موسم عودة المدرسين من الخليج أو مواسم الحج والعمرة.

ففي الوقت الذي تنظر فيه أي شركة في العالم الى النعمة التي تتمثل في زيادة الطلب على السلعة أو الخدمة فان الإدارة المصرية تئن وتستصرخ وكأنها تواجه مشكلة أو محنة.

وبالطبع فان هذه الشكوى المصرية موروثة من زمن الموارد المحددة سلفا، والاقتصاد الاستاتيكي الشبيه بالخدمات الخاصة لا اقتصاد التجارة الحريص على توفير السلعة وتعظيم ربحيته من الفرصة المتاحة. وينطبق هذا على كثير من السلع التي تعرضت لاختناقات عنيفة في العهد الناصري، و من العجيب أن بعض هذه الاختناقات حدثت في التوزيع بل إن بعضها حدث بسبب القصور في إدارة المخازن الفرعية والاستراتيجية.