في رحيل المخرج السوري حاتم علي

حاتم علي

أحزنني رحيلك يا مخرج التغريبة الفلسطينية ورائعة أمير المؤمنين “عمر” رضي الله عنه.. ربما لا نُقَدّر ونلتمس الأثر بأعلى تجليَّاته إلا في مناسبة حزينة ومفجعة برحيلك إلى الرفيق الأعلى. ذاك الاستحقاق الذي تألق بك طيلة حياتك واكتمل وارتقى حتى الكمال في ذاك الحد الفاصل من الزمن الذي فارقناك به.. كنت منذ أيام حياً يواصل صناعة الفن والأثر.. ويوم رحيلك بَرَقَ كُل ذاك الألق الفني والإنساني الذي سيخّلدُ ذكراك بأعمال أقل ما يُقال عنها عظيمة ومهيبة ووجداناً لا ولن يزول فينا..

يقولون إن الإنسان في يوم ولادته ويوم موته يُعَرَضُ عليه شريط حياته منذ ولادته حتى مماته..وفي ذاك اليوم يوم فراقك ، كان عرضاً مهيباً مُتألقاً ، فمرّ مروراً خاطفاً في كل ما قدمته من الأثر الذي لا ولن يزول سحره وصدق وَقعِهِ في قلوبنا ، ولن يتوقف فيه الانتظار لمشاهدة أعمالك مراراً وتكراراً وكأنها الإرث والأنيس والقريب من انسانيتنا..سكينة واطمئنان نعيشها في كُل المشاهد التي أبدعت صنعها بإحياء الجمال والرُقي فينا، وأصبتَ فيها ذاك المعنى الإنساني الذي لا ولن ينفك عن مغادرة الذاكرة والحاضر الذي سنتبعه في كل عمل تنتهي شارته بذاك الوصف “إخراج” المتبوع بالإسم الذي شرفه ببريقه “حاتم علي”..فنكتفي بك كمخرجٍ أولاً لنؤمن بالعمل واستحقاقه النجاح مُسبقاً..

فكانت فلسطين العز والثورة والبطولة والأصالة بعين إبداعه (تغريبة فلسطينية)..وكان لمجد الإسلام من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسلسل (عمر)

حاتم علي..ذاك الإنسان الذي أبدع وأبدع وأبدع وأتقن ، ثم أتقن  حتى أبدع من بعد إيمان يصل له من اكتمال الصورة الفنية الأبهى ،  لترضيه من نظرة الرضا في عيون المشاهدين شكراً وإمتناناً لما تركته فينا من ذكريات وسعادة الرضا، وبسكون القلوب المتألمة بمشاهد تُحيي فينا ما ننتقصه وما نبحث عنه..ذاك الفنان الذي حفر في ذكرياتنا أسمى وأرقى الأعمال الدرامية ..فكانت فلسطين العز والثورة والبطولة والأصالة بعين إبداعه (تغريبة فلسطينية)..وكان لمجد الإسلام من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسلسل (عمر) رضي الله عنه..ليعود بنا لسحر الشرق في الرباعية الأندلسية مع الكاتب الفلسطيني الدكتور وليد سيف..في تاريخ فتح الاندلس حتى سقوطها..بدايةً من ربيع قرطبة..وصقر قريش..وملوك الطوائف..ولم يتم انتاج العمل الرابع لأسباب مجهولة..الثلاثية الأضخم عن التاريخ والأدب والجمال والفكر في أهم حقبة في التاريخ الإسلامي..

وكفى بالزير سالم عملاً أبدع فيه وارتفع صيته من ذاك الزمن الذي عشناه بين القبائل المُتحاربة في الصحاري وبين صهيل الجياد والغبار الأصيل من ذاك الزمن..حتى ذاع  صيتُ وهتاف نصر وفتح القدس في عمله الأصيل “صلاح الدين الأيوبي” فلمَعَتْ قوته وعظمته وأخلاقه كقائد مسلم في مشاهد المخرج المهيبة..ذاك القائد الذي وحَّد صفوف المسلمين في معركة حطين في الحروب الصليبية حتى استعاد القدس والهيبة..حاتم علي الذي وهب رؤيته الثاقبة والجلية في المَشاهد التي تألق وأبدع بها نجوم العمل من أمام وخلف الكاميرا..فكان ذاك الجسر الذي عبر منه الكثيرون..عَبْرَ “أمير المخرجين”..ومخرج “الروائع”..

غادر حاتم علي بعيداً عن دمشق الياسمين منذ الفاجعة الإنسانية..وانتهت فصوله الأربعة طيلة الإحدى عشر عاماً في تغريبته القاحلة عن الوطن الشام..لكن طيب الأثر يبقى أثره..وفي دمشق وفي بيوتها أثرٌ يستعيد الفصول الأربعة التي أثريتها وسط حكايات بيوت دمشق مع عائلة كريم وبناته الخمسة وعائلاتهن..تلك السلسلة التي نُعاود ايضاً الأنس بها بإعادة مشاهدتها لتُعيدنا الى طيب الأيام الخوالي..لكن أليس للأحلام بقية معك..نعم هنالك الكثير من الإرث الفني الذي هو ملكنا جميعاً وما تبقى لنا منك..وأحلام كبيرة نعاود مراراً عيشها في مشاهد رسَمتها في وسط  بيت دمشقي عريق في الحارة الدمشقية العتيقة مع عائلة أبو عمر..لنتغنى بشَارتها الموسيقية مع كل بداية ونهاية بذاك اللحن الذي سيده القانون وعازفه..نامي إذاً يا روحُ نامي الآن..نامي إذاً يا روح فقد نفذ الكلام..هي آخر الأحلام..نطلقها على عجل ونمضي..هي آخر الأحلام نطويها..ونرحل في سلام..

وها قد رحلتْ.. وها قد رَحَلَتْ روحك إلى باريها.. واتَبَعَ جسدُك حنين روحك للوطن.. لدمشق الياسمين..لٍيَحتَظن الثرى جسدك الالذي أضناه الفراق جبراً وقهراً..لتكون دمشقُ المُنتهى والمُستَقَر..

لن ننسى يا حاتم تلك الهيبة التي احييتها في قلوبنا ، والدموع الدافئة فخراً واعتزازاً بقضيتنا

أسمعك جيداً بنبرة صوتك الواثقة الثابتة في كلماتك وتجارب مسيرة حياتك التي وهبتك فتحاً واسعاً بيناً لتكون بصمتك فيها “تغريبة فلسطينية”:

“أنا لست فقط أحد أبناء الجولان المحتل الذين عاشوا تجربة تتقاطع في كثير من تفاصيلها مع تجربة شخصيات التغريبة الفلسطينية ، ولكنني أيضاً عشت طفولتي وشبابي في مخيم اليرموك ، وكنت في عام ١٩٦٧ في عمر صالح الذي كان يحمله خاله مسعود ، وكنت محمولاً بالطريقة نفسها على ظهر أحد أخوالي ، بشكل أو بآخر استطعت أن أستحضر الكثير من هذه التفاصيل وأوظفها وأعيد تركيبها مستكشفاً إياها في أحيانٍ كثيرة من خلال العمل نفسه ، وكثيراً ما سُئلت نفس السؤال وهو كيف يمكن لمخرج غير فلسطيني أن يقدم عملاً عن هذه القضية ، وأنا شخصياً كنت أقول إن القضية الفلسطينية هي قضيتنا جميعاً كعرب”.

فلسطين كانت في “التغريبة الفلسطينية” الوطن الذي نفتقده ونشتاق لأجداده وثواره وثوراته وشجره وبحره وبطولاته ولهجته الاصيلة التي أبدع فيها غير الناطقين بها ، سافرتَ عبر النصوص والزمن واستحضرتَ ذاك التوثيق الذي يزيدنا حنيناً وثباتاً وقوةً بأن الأرض أرضنا والحق لنا ودم الشهداء في مقاومة الإحتلال والطغيان لن ينضب ، فكنت رشدي الذي ارتوى في آخر المشاهد بلقاء أمه التي غربته النكبة والنكسة عنها ، كنت وريثاً لأبيك العبد الذي استشهد وارتقتْ بارودته من خالك حسن حتى حملتها بين يديكَ إرثاً ووصيةً ضد ظلم القهر والإحتلال..فكان مشهد النهاية بداية لثورات لن تتوقف ما دام الحق قائماً بأهله ، فكنت قائماً واثقاً روحك بين راحتيك في مشهدك الأخير وبخطاب العدو ب”أيها المارون بين الكلمات العابرة اجمعوا أسماءكم وانصرفوا”

لن ننسى يا حاتم تلك الهيبة التي احييتها في قلوبنا ، والدموع الدافئة فخراً واعتزازاً بقضيتنا التي ابدعت بإخراجها من مشاهد التغريبة الفلسطينية..

أذكر جيداً تلك الأمنية التي ارتسمتهُا وتمنيتهُا وحلمتُ بها منذ البدء بكتابة الرواية

كانت لأحلامك بقية.. لكن قدر الله وحكمته أن ترحل قبل أن تُتم ما كنُت تتوق لتحقيقه في كلماتك وسعيْك لإحياء كل حكايانا عن الإنسان والوطن..

“السينما هي أفضل وسيلة عرض على الإطلاق، لا أتوقف عن التفكير في السينما حتى وأنا أعمل على المسلسلات، لكن نظرًا لظروف الإنتاج في موطني، أصبح العمل في السينما مثل حلم صعب المنال، العمل في التلفزيون هو نوع من التعويض لا سيما حين يكون بمقدوري الاستعانة بالتكنولوجيا والتقنيات السينمائية، حيث سمح لي ذلك بممارسة ما أحب، بينما كانت تكتسب أعمالي طابعًا إخراجيًا فريدًا من نوعه، ربما كنت أنتظر اللحظة المناسبة التي أدخل فيها السينما من بابها الواسع عن جدارة”..

اذكر جيداً تلك الأمنية التي ارتسمتهُا وتمنيتهُا وحلمتُ بها منذ البدء بكتابة الرواية ، لتكون مخرجاً لفيلم ومسلسلاً لروايتي “رسائل الحب والحرب بين القدس ودمشق” ، سعيتُ وسعيتُ بمحاولات الوصول..وها قد ارتَقَيْتْ.. ولمسيرتك إرثٌ وبقية من المسيرات الراقية ..على روحك السلام ورحمة الله الواسعة يا مخرج الروائع..حاتم علي..