جدل الهوية بين الطيب صالح و نايريري (٢)

أمريكا ما هى هويتها؟ وبريطانيا وفرنسا…كل هذا العالم مكون من أجناس وشعوب ولأسباب عملية تراضت أن تعيش مع بعضها.

الطيب صالح وقضية الهوية

التقيت الأستاذ الطيب صالح في بواكير الشباب؛ حينما كنت أعمل محررا صحافيا متعاونا و أجريت معه حوارا صحفيا مطولا نشر في عددي 26 و27 أبريل 1998 في صحيفة (الخرطوم) السودانية المعارضة، والتي كانت تصدر في القاهرة آنذاك، وكان وقتها الاستقطاب السياسي في الساحة السودانية على أشده وطبول الحرب تقرع من الجانبين في جنوب السودان.

وكان الصراع الثقافي بدوره محتدما حول قضية الجنوب ولوازمها من حوارات الهوية؛ ونسبة لأهمية ما جاء في ذلك الحوار من آراء وحقائق وتفاصيل رأيت أن أنقل هذا الحوار، وما حواه من رؤية الأستاذ الطيب صالح للقضية  ومضاعفاتها،لنعيد قراءة القضية مرة أخرى في سياق مآلاتها بعد أكثر من عشرين عاما، انفصل خلالها جنوب السودان ولكن لم يخمد أوار القضية بل تمدد في حيز جغرافي أوسع.

بدأت ذاك اللقاء بسؤال الأستاذ الطيب صالح عن مشكلة الجنوب قائلا: مشكلة الجنوب …لنقل إنها إحدى مخلفات الاستعمار ..ولكننا وعلى مدار أربعين عاما لم نجد لها حلا…بل إن الأمر يتفاقم مع مرور الوقت وتطرح هذه القضية قضايا فرعية وأسئلة خلافية ..ونجد أنفسنا ندور دون أن نعرف السبب . وتصبح بديهيات كثيرة لدينا محل شك وأسئلة ..ماذا تقول سيدي وابدأ من حيث تشاء..

أولا: أنا (الطيب صالح) عربى أفريقي مسلم ….هذا ما أعرفه تماما و أسلم به .هذه هى هويتي. نعم هناك أسئلة كثيرة في موضوع الهوية وهناك آراء غريبة ودعوات خطيرة تطلق فى هذا الشأن .

البعض يقول لنا: إذا أردتم العيش معنا فلابد أن تقبلوا بأن هويتكم ليست عربية! الناس فى هذه الدنيا شعوب متحدة دون أن يضطر أحدهم إلى أن ينزع جلده .. أما ما قد قلته أنت سابقا من أن العرب يقبلونا أم لا ..أو الأفارقة يقبلونا أم لا فهذه قضية ثانويه.

نحن لسنا أفارقه حسب التعريف الذى يريد أن يقصر الأفريقية على الزنجية.

يكمل الأستاذ الطيب صالح، بعض الجنوبيين يحاولون أن تكون لهم الغلبة ..كيف؟ ليس هناك أسهل من أن يجعلوا الشماليين يتنازلون عن إحساسهم الذى يحسونه ومنذ قرون بأنهم عرب ومسلمين فى السودان الشمالي بصرف النظر عن رأى بقية العرب  وفى هذه الحالة : ماذا تبقى لهم ؟ …خلاص لم يعد لديهم شئ …والغريب الآن أن الجنوبيين أدخلوا معهم (ودون أن يطلب هؤلاء منهم)

أدخلوا معهم النوبة في وسط السودان وأهل الشرق والغرب ..وهذا يؤكد رغبتهم فى ان يكونوا أغلبية وبهذا يصبح السودان الشمالى الذى هو عصب السودان بلا قيمة.

ويكمل الأستاذ الطيب صالح: هذه دعوة خطيرة لابد من الالتفات إليها والانتباه لها وهي دعوة ليست قائمة على حسن النية في كل الأحوال .. صحيح أن الحكومات أساءت التصرف وظلمت الجنوب والحرب و مآسيها ولكن المطلوب الآن ربما يكون فيه القضاء على العنصر العربى الإسلامى في السودان : وكما يقولون (كلمة حق أريد بها باطل).

ويواصل الأستاذ صالح، أنت لا يهمك (مين يفتكرك إيه) أنت ذاتك بماذا تحس … هل تقرأ الشعر العربى؟ …تحبه وتستمع به؟ …الجاحظ نفسه لم يكن عربيا وفق هذه المعايير …. أنت تكتب باللغة العربية …تعبر عن نفسك وأحاسيسك بها، : خلاص أنت إذن عربى والحديث النبوي الشريف (ليست العروبة لأحدكم بأب ولا أم إنما هي اللسان) .

أكتفي مؤقتا بهذا القدر من الاقتباس من حديث الطيب صالح لأعرض ما ذكره  الدكتور عبدالمجيد الطيب عمر من أن كلمة (عربي) معناها لغويا هو (الواضح) وبذلك تكون (اللغة العربية) معناها اللغة الواضحة فقط، واختصت أيضا في القرآن بصفة ثانية وهي الابانة إضافة للوضوح .

القضية صراع بين قوى …ربما يأتى عليك يوم تجد فيه نفسك بلا قيمة ولا قوة لك

ويستشهد الدكتور عمر بعدد  من الآيات الكريمة الدالة علي المعنى الذي ذكره ،كما في قوله تعالي (بِلِسَانٍ عربي مبين ) أي أن التنزيل جاء بلسان  واضح ومبين،  وفي توضيح القرآن للكلمة المقابله لكلمة عربي في قوله تعالي (وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ یَقُولُونَ إِنَّمَا یُعَلِّمُهُۥ بَشَرࣱۗ لِّسَانُ ٱلَّذِی یُلۡحِدُونَ إِلَیۡهِ أَعۡجَمِیࣱّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِیࣱّ مُّبِینٌ) .

وكما في قوله تعالي (إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) أيضا بمعنى قرآنا واضحا مبينا حتى يسهل فهم مراميه، ويخلص الدكتور عبدالمجيد عمر بأن  الكلمة (عربي) لا تعني بأي حال شعبا ولا قومية بعينها. ويضيف الدكتور عبدالمجيد عمر ، أن الاقوام الذين تحدثوا هذه اللغة  في الجزيرة قديما سموا عربا نسبة للغتهم  وليس العكس كما هو شائع بين الناس ، مثلما  توصف بعض الشعوب في غرب أفريقيا اليوم (بالفرانكفونية) لأنها تتحدث  الفرنسية رغم أنهم ليسو فرنسيين.

قلت للأستاذ الطيب صالح : الثقافة والأدب على وجه الخصوص يبدو أنه قد دخل أو أدخل دائرة الصراع ..ومبحث بلد المنشأ …ولك أنت شخصيا من هذا نصيب …يقولون إن أدب الطيب صالح ليس أدبا أفريقيا! ما رأيك ؟

قال رحمه الله :نعم أسمع هذا كثيرا، وربما هم يقصدوا أنه أدب غير زنجي…أنا أقول لهم هذا….ولكن لا ترضيهم هذه الكلمة (زنجي)، يا سيدى نحن نعيش في هذه القارة منذ قرون …نحن أفارقة والعرب أيضا أفارقة : إذن ماذا نقول عن المصريين والمغاربة؟

وجودنا هنا أثر علينا اختلطنا بالدم والثقافة …كلمة هوية هذه كلمة (عائمة) .

أمريكا ما هي هويتها؟ …وبريطانيا وفرنسا ….كل هذا العالم مكون من أجناس وشعوب ولأسباب عملية تراضت أن تعيش مع بعضها، الكاثوليكي ..والبروتستانتى وذو الأصول الللاتينية وذو الأصول الأنجلوسكسونية ..والجيرمان وغيرها.

وأضاف الأستاذ الطيب صالح : يا سيدي ما فى (زول) الآن عربي : ما يسمى بالعربى الآن هو خليط من أجناس بمعنى أن الدم العربي فيك أنت (السوداني) ليس بأقل من الدم العربي لدى السوري مثلا …لكن السوري اختلط بأغاريق ورومان وغيرهم لذا أصبح لونه أبيض وهذه أيضا قضية ثانية : المعيار الخطأ ..

إذا كانت القضية فصيلة دم، فالدم العربي فينا ليس بأقل من غيرنا ….وإن كانت اللسان فلسانا الدارج في السودان من أفصح الدارجات، قل لي كيف تفسر ذلك ؟ بمعنى أنه لم يأت أحد ليعلمنا هذه اللغة … إنها لغتنا الخاصة.

يواصل الاستاذ الطيب صالح قائلا : يا أخي أنا أستغرب تماما لما يقوله بعض المثقفين الجنوبيين في أننا (العرب) أشبه بالبيض في جنوب أفريقيا .. أنا أسأل ما هو وجة المقارنة: نحن أيضا كنا مستعمرين ومضطهدين …أنت تتحدث عن (مثل:بالضم) : المثل هذه يسعى اليها الإنسان، ولكن الشعوب لا تقوم على مثل : الشعوب تقوم على توازن قوى، بريطانيا قائمة على عناصر أنجلوسكسونية و اسكوتلندية وآيرلندية وولش ولكنهم فى النهاية شعب، ثم يأتون بعد ذلك ويتحدثون ويتفقون على المثل التي تعطى لكل منهم ما يسعى ويتطلع إليه …فرنسا أيضا قائمة على توازن بين الشمال والجنوب والشرق والغرب ….سويسرا تعرف قصتها ..

نحن نضيع بالمناسبة إذا فكرنا فى المثل قبل أن نرتبط كشعب وقد تبدو هذه الفرضية لبعض الناس مستحيلة ولكنها ….ليست مستحيلة.  نحن العرب الآن في السودان لنا حوالي 800 سنة والتي هى فترة وجود العرب في إسبانيا ثم قاموا وطردوهم وقطعوا دابرهم.

اليها الإنسان، ولكن الشعوب لا تقوم على مثل : الشعوب تقوم على توازن قوى , بريطانيا قائمة على عناصر

ويواصل الأستاذ: أنا لا أرى أى ضمان لما نحن عليه …أنت تتكلم عن قيم : يا أخى نحن أهلنا عملوا قيم نحن فخورين بها …حياتك مع أهلك فى منطقة كردفان مثلا ألم تكن محكومة بقيم ومثل ؟ قلت نعم بالتاكيد ….قال :

هل تكون سعيدا إذا ضاعت هذه القيم … قلت لا بالتاكيد ولكنى أتحدث عن الآخر .

قال : الآخر هذا يضمن له القانون كل حقوقه …القانون هو المحك بينك وبين الآخر وهذا ما تقوم عليه كل المجتمعات التي ذكرناها. يضيف الأستاذ الطيب صالح :تبدو القضية في أحيان كثيرة إنها ليست قضية حقوق، إنما قضية صراع على الهيمنة ..أنت يجب أن تتمسك بثوابتك ثم تتفاهم مع الآخر …ولكن أنت ضعيف سوف تضيع ويتم القضاء عليك ..
ويواصل الأستاذ الطيب صالح: قلت ذات مرة للسيد بونا ملوال المثقف والسياسي والوزير من جنوب السودان) ماذا يضيركم إذا نحن ربطناكم بالحضارة العربية، هذه حضارة طويلة عريضة …وتراث أدبي وفكري واسع ومتنوع …ثم ماذا ستقدم إلي أنت إذا قبلت أنا وتخليت عن ارتباطي بالثقافة العربية ؟؟

المهم في نهاية الأمر .. أنتم الشباب سوف تصبحون ذات يوم في موقع المسؤولية عن البلد …أنت بهذا You are conceding the issue…أنت تنازلت عن حقك …مسبقا والقضية
ليست قضية حقوق … القضية صراع بين قوي …ربما يأتى عليك يوم تجد فيه نفسك بلا قيمة ولا قوة لك ! يتواصل عرض آراء الطيب صالح ورؤيته لقضية الهوية عبر المقال التالي رقم 3.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها