المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (1)

خلال العشرين سنة الأخيرة من عمره، كتب ضياء الدين بن الأثير “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر”، وله عدد من المؤلفات الأخرى منها “المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء”.

عرفت البلاغة أطوارًا من التجديد، ولعل الأسلوبية الوريث الشرعي للبلاغة القديمة، والأسلوبية في أبسط تعريفاتها تحليل لغوي موضوعه الأسلوب، وشرطه الموضوعية، وركيزته الألسنية.

في التراث العربي، تطل علينا جملة من كتب النقد والبلاغة، حازت السبق والقبول عند أهل صناعة الكتابة، بل وأفادت منها الأسلوبية في جملة من أركانها ومرتكزاتها، ومن أهم تلك المصنفات “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر” لضياء الدين بن الأثير.

وقبل الحديث عن هذا السِفر الماتع النافع، يتعين علينا التعرّف إلى صاحبه، ثم نتطرق إلى مكانة الكتاب بين كتب البلاغة العربية، ومن ثَمَّ نربط بين بلاغة العرب -القديمة- والبلاغة الجديدة ممثلةً في الأسلوبية.. 

ولا سبيل للتعريج هنا على بلاغة الحجاج؛ لأن المقام مختلف وسيُشتِت الأذهان، ما يحدونا للتركيز على فكرة التساوق بين بلاغة المثل السائر والأسلوبية.

صاحب المثل السائر “أبو الفتح” ضياء الدين بن الأثير، واسمه نصر الدين بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، وقد عُرف أبوه بـ “أثير الدين” لقربه من آل زنكي أتابكة الموصل، وصحبته الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير عماد الدين زنكي ملك الموصل، ووزير ولديه سيف الدين غازي الأول بن زنكي وقطب الدين مودود بن زنكي.

اشتهر أثير الدين برجاحة عقله وجوده، وقد أقبل من جزيرة ابن عمر بأمر من أتابكة الموصل؛ ليكون وزير ماليتهم وجامع خراجهم، وقد ذكر ياقوت الحموي أن جزيرة ابن عمر تقع شمالي الموصل، وبينهما مسيرة ثلاثة أيام.

لما استدعوه إلى هذه المهمة الخطيرة، أقبل أثير الدين بكامل أسرته من الجزيرة؛ فلقبوه أول الأمر بالجزري نسبةً إلى الجزيرة ثم بأثير الدين، وعرفه الناس بدماثة خلقه ورأفته بالرعية؛ فلم يرهقهم في جبي الخراج والمكوس والإتاوات والضرائب، وابتنى لنفسه سمعة طيبة عند العامة والخاصة.

يمكنك القول إن ابن الأثير -ومثله ابن خلدون- قد أخفق في الجمع بين المكانتين السياسية والأدبية معًا؛ فكان أن قرر تقديم الأدب على السياسة، أو أن الظروف المحيطة أرغمته على ذلك.

وأنجب أثير الدين ثلاثة أبناء، الأول “أبو السعادات” مجد الدين المبارك بن الأثير المولود سنة (544-606هـ) واشتهر بالبراعة في الفقه والحديث، صاحب كتاب “النهاية في غريب الحديث والأثر”، وكتاب “جامع الأصول في أحاديث الرسول”..

والابن الثاني “أبو الحسن” علي بن الأثير المؤرخ المولود سنة (555-630هـ) والملقب بـ “عز الدين” صاحب (أسد الغابة في معرفة الصحابة)، وكتاب (الكامل في التاريخ) وهو من أشهر كتب التاريخ المتداولة، ومن أوثق المصادر التاريخية الإسلامية وأوضحها وأوعاها، وله كذلك كتاب “اللباب في مختصر الأنساب للسمعاني” وكتاب “ترجمة الدولة الأتابكية في الموصل”.

أما الثالث -فصاحبنا- ضياء الدين المولود يوم 20 شعبان 558هـ/1163م، كان معتدًا بنفسه مزهوًا بها، وقد جرَّ عليه ذلك من الأخطار الشيء الكثير. أقبل على العلم في صغره بنهم منقطع النظير، وحفظ دواوين فحول الشعراء أمثال أبي تمام الطائي والبحتري والمتنبي، وامتهن الكتابة حتى برع فيها وأشير إليه بالبنان.

لسبب غير معلوم، أغفلت كتب التراجم -على كثرتها- أسماء الشيوخ والعلماء الذين أخذ عنهم ضياء الدين، ونهض بهذه التبعة بعض المعاصرين، وذكروا أنه تلقى العلم على أخيه أبي السعادات، وخطيب الموصل أبي الفضل الطوسيّ، ويحيى الثقفيّ.

أخذ ضياء الدين من علم بطرف؛ فقرأ في النقد والحديث والفقه والشعر والأدب والتفسير، كانت الثقافة الموسوعية تسيطر على تفكيره، ولعلَّ ذلك ما ساقه للقول “إن الكاتب لا يُقدِم على الكتابة إذا لم تكتمل لديه المعارف جميعها”، وهذا تصوره المترتب على ولعه بالجمع والتحصيل، وإن كانت المغالاة في ذلك واضحة، وهي شرطٌ يستحيل في يومنا.

لو ركزنا الحديث على الجانب النقدي والبلاغي في تحصيله، لوقعنا على اقتباسات عدة من “الموازنة” للآمدي، و”الوساطة” للقاضي الجرجاني، و”نقد الشعر” لقدامة بن جعفر، و”أسرار البلاغة” لعبد القاهر الجرجاني، و”سر الفصاحة” لابن سنان الخفاجي، و”البيان والتبيين” للجاحظ، وغيرها من المصادر النقدية والبلاغية.

تاقت نفس ضياء الدين للسياسة والوزارة؛ فهي المنصب الأرفع يومها في نظر الكاتب، ولم يردعه ما حاق بابن الزيات، بل أصر على بلوغ مأربه ودخول دهاليز السياسة.

ذاع صيته بالموصل، وقد عاش بها عشرين سنة، ثم اتصلت أسبابه بالقاضي الفاضل، وذلك مع احتضار القرن السادس الهجري، وعمره حينها 29 سنةً؛ فترك الموصل إلى الشام سعيًا وراء حلمه، وفي ربيع الأول سنة 587هـ ألحقه القاضي الفاضل بخدمة الناصر صلاح الدين الأيوبي.

تحركت نفسه بالتخطيط لمنصب الوزارة، وارتأى أن الأيام المقبلة ستشهد تربع الأفضل بن صلاح الدين على كرسي الحكم؛ فاستمال الأفضلَ ليكون رجله ولسانه، وأحبه الأفضلُ وطلب من أبيه -صلاح الدين الأيوبي- أن يتنازل له عنه ليستوزره في بلاطه. لسببٍ ما أحب الأفضل السهروردي، لكن الفقهاء أشاروا على صلاح الدين بالتخلص منه،

أما ابن الأثير فلم يصطدم بأحد، وسار إلى غايته بعدما ألجم لسانه، لم يخلق لنفسه -أول الأمر- خصومات في بلاط الأفضل. أقبلت أيام سعد ابن الأثير، وعينه الأفضل وزيرًا فتحققت أمانيه، وتخفَّف عن تحفظه ورزانته، وغلبه طيشه فجرَّ على نفسه وعلى الأفضل خصومات عنيدة.

وفي سنة 607هـ، التف النَّاس حول أعداء الأفضل نكاية فيه وفي وزيره الأخرق، وأجبروا الأفضل على الهروب إلى صرخد، وكان ابن الأثير قد أساء معاملة أهلها؛ فكادوا يقتلونه لولا أن احتال له حاجبه محاسن بن عجم؛ فأخرجه منها مستخفيًا في صندوق مقفل..

وسار إلى مصر في الوقت الذي خرج فيه الأفضل قاصدها، ولما بلغ ابن الأثير طرد الملك العادل لابن أخيه الأفضل من مصر.

قرر -بعد تردد- مفارقة الأفضل في ذي القعدة سنة 607هـ، واتصل مدة قصيرة بالملك الظاهر غازي صاحب حلب، ثم عاد إلى الموصل فلم يستقم حاله؛ فورد إربل ثم سافر إلى سنجار ومنها إلى الموصل تارة أخرى، وخدم في ديوان إنشاء أميرها عز الدين بن مسعود بن نور الدين أرسلان شاه.

استقر ابن الأثير في الموصل عشرين سنة شهدت أواخر أيامه، تفرغ خلالها للتأليف والتدريس، استمر على ذلك حتَّى توفي يوم الإثنين 29 ربيع الآخر سنة 637هـ في الموصل..

وقيل مات في بغداد وقد أرسله صاحب الموصل سفيرًا لها ورسولًا في حاجة ما، فلما مات ببغداد صلوا عليه في اليوم التالي بجامع القصر، ودفنوه بمقابر قريش في الجانب الغربي بمشهد موسى بن جعفر.

تفرُّغُ ابن الأثير للكتابة والتدريس يذكرنا بحال ابن خلدون، وقد عمل أول أمره بالسياسة، ثم تركها وانتقل إلى عالم التأليف والتدريس؛ فكتب المقدمة المشهورة، وبها خلَّد اسمه بأكثر مما لو اقتصر على السلك السياسي وحده.

ويمكنك القول إن ابن الأثير -ومثله ابن خلدون- قد أخفق في الجمع بين المكانتين السياسية والأدبية معًا؛ فكان أن قرر تقديم الأدب على السياسة، أو أن الظروف المحيطة أرغمته على ذلك.

خلال العشرين سنة الأخيرة من عمره، كتب ضياء الدين بن الأثير “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر”، وله عدد من المؤلفات الأخرى منها “المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء”، “الوشي المرقوم في حل النظم”، “الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور”، “البرهان في علم البيان”، “كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب”، “المرصَّع في الأدبيات”، “المفتاح المنشا في فن الإنشا”، “السرقات الشعرية” وغيرها.

يذكرنا ذلك بتفرُّغ ابن خَلدون -بفتح الخاء وليس بضمِّها؛ إذ ضبطها ابن خَلدون نفسه وأثبتها بالفتح- أواخر حياته للتأليف وانقطاعه عن تعاطي السياسة.

أما كتاب “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر” فله مكانة سامقة في دنيا البلاغة العربية، ومن أسباب شهرة الكتاب أن صاحبه أفاد من عمله لسنواتٍ طويلة مع القاضي الفاضل وفي بلاط الكتابة والوزارة؛ فجمع مادة غزيرة أمدها بأمثلة ضافية وافية، ولم يبتعد عن هذا الكتاب تحديدًا، بل جعله مشروعًا فكريًا وثقافيًا دافع عنه ونافح؛ فأضاف إليه وشطب منه وعدَّل فيه ليصل به إلى درجة من الإتقان والرفعة.

الكتب خير صديق

 

وفي “وَفَياتِ الأعيان”، يقول ابن خَلِّكان (ت 681هـ): “… ولضياء الدين من التصانيف الدالة على غزارة فضله وتحقيق نبله، كتابه الذي سماه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)، وهو في مجلدين، جمع فأوعى، ولم يترك شيئًا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره..

ولما فرغ من تصنيفه كتبه الناس عنه؛ فوصل إلى بغداد مئة نسخة، وله كتاب (الوشي المرقوم في حل المنظوم)، وهو مع وجازته في غاية الحسن والإفادة، وله كتاب (المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء)، وهو أيضًا نهاية في بابه”، وقد أخذ ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ) عن ابن خلكان قوله واختصره، ومعلومٌ أن ابن العماد عيال في كتابه على ابن خلكان.

قسَّم ابن الأثير كتابه إلى مقدمةٍ ومقالتين -على غرار ما فعل أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين- فأما المقدمة فضمَّت عشرة فصول (في موضوع علم البيان، في آلات علم البيان وأدواته، في الحكم على المعاني، في الترجيح بين المعاني، في جوامع الكلم، في الحكمة التي هي ضالة المؤمن، في الحقيقة والمجاز، في الفصاحة والبلاغة، في أركان الكتابة، في الطريق إلى تعلم الكتابة)..

وإبان المقدمة عرض ضياء الدين للمصادر التي نهل منها ورجع إليها وتناولها بمبضع نقده، وأعمل عقله في كتاباتهم ولم يُسلم القياد لما ساقوه، إنما ناظرهم على صفحات مصنَّفه، وأزرى على آراء بعضهم، بل وسفّه آراءً لم يستسغها؛ فظهرت شخصيته دون مواربة.

في المقدمة، يخبرنا ابن الأثير أن “علم البيان لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام وأدلة الأحكام، وقد ألف الناس كتبًا وخطبًا، وما من تأليف إلا وقد تصفحت شينه وزينه، وعلمت غثه وسمينه؛ فلم أجد ما يُنتفع به في ذلك إلا كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وكتاب سر الفصاحة لأبي محمد عبد الله بن سند الخفاجي..

غير أن كتاب الموازنة أجمع أصولًا وأجدى محصولًا، وكتاب سر الفصاحة وإن نبَّه فيه على نكت منيرة؛ فإنه قد أكثر بما قلَّ به مقدار كتابه من ذكر الأصوات والحروف والكلام عليها، ومن الكلام على اللفظة المفردة وصفاتها مما لا حاجة إلى أكثره، ومن الكلام في مواضع شدَّ عنها الصواب”.

حتى الآن، يتبيّن للقارئ أن ضياء الدين أعلى من قيمة كتابي الوازنة وسر الفصاحة على غيرهما من الكتب، ثم رفع الموازنة على سائر الكتب، لكن ابن الأثير لا يروق له أن يقف عند هذا الحد؛ فيمضي في مقدمته نافيًا السبق والتقدم للموازنة قائلًا: “على أن كلا الكتابين -الموازنة وسر الفصاحة- قد أهملا من هذا العلم أبوابًا، لربما ذكرا في بعض المواضع قشورًا وتركا لبابًا”..

ومن بعدها يفخر بنفسه: “وكنت عثرت على ضروبٍ كثيرة في غضون القرآن الكريم، ولم أجد أحدًا ممن تقدمني تعرَّض لذكر شيءٍ منها، وهي إذا عُدَّت كانت في هذا العلم بمقدار شطره، وإذا نُظِرَ إلى فوائدها وُجِدَت محتوية عليه بأسره، وقد أوردتها هنا وشفعتها بضروبٍ أُخر مدوَّنةً في الكتب القديمة، بعد أن حذفت منها ما حذفته، وأضفت إليها ما أضفته”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها