قصة “كوفيد19” من هول الصدمة إلى التعايش (٢)

طواقم طبية تكافح تفشي فيروس كورونا في الأرجنتين
طواقم طبية تكافح تفشي فيروس كورونا في الأرجنتين

تحاول الحلقة الثانية من قصة كوفيد(19) الإجابة عن سؤال كيف يعيد الناس بناء الواقع من حولهم، وإيجاد هوية له تمكنهم من إعادة التوازن الفكري والعقلي في وقت الأزمات، كما تسلط الضوء على جودة الحياة النفسية في ظل هذا الواقع الجديد المليء بالتجاذبات والتناقضات.

كوفيد-19 والنظام المعرفي للأفراد

إن عملية التصورات الاجتماعية لموضوع كورونا، تنتظم وفق معادلة معرفية وهي البناء والهدم وإعادة البناء، ولأن الصدمة كانت كبيرة، فإن منظومة المعلومات السابقة والمتراكمة لدى عامة الناس خاصة منذ المنتصف الثاني من القرن 20 والقرن 21 لم تألف هذا النوع من الأوبئة!

التي تجعل الدول تنغلق على نفسها والإنسان يتقوقع على ذاته حماية لها من العدوى، ولأن الأمر هكذا فإن عملية التصورات تقوم بالتهيئة للجديد بهدف إدماجه في المألوف من القديم.

وذلك عن طريق الوظيفة المعرفية؛ ولأن صدمة كورونا كانت كبيرة بكل الأعتبارات فإن خريطة جديدة من المعلومات سيتم بناؤها، أثناء كورونا وبعدها وأخرى سيتم هدمهما لا محالة.

التي تجعل الدول تنغلق على نفسها والإنسان يتقوقع على ذاته حماية لها من العدوى، ولأن الأمر هكذا فإن عملية التصورات تقوم بالتهيئة للجديد بهدف إدماجه في المألوف من القديم.

معلومات عن الإنسان وقدراته، وعن التكنولوجيا وعجزها، وعن مجال العلاقات الاقتصادية والإنسانية والثقافية… وحدودها، وعن الصحة وأهميتها، وباختصار جملة المعطيات حول رؤية الإنسان إلى نفسه وإلى الطبيعة وإلى الكون من حوله.

وباعتبار التصورات/التمثلات بنية من المعتقدات والآراء والمعلومات المنتشرة حول موضوع معين، فإن جائحة كورونا منذ سياقات انتشارها صاحبتها الكثير من المعلومات والمعطيات، انبنى معها عالم من التصورات المتباينة والمختلفة، لدى رؤساء الدول والخبراء والمفكرين ولدى عامة الناس.

ففي عز انتشار جائحة كورونا ببلده، أطل رئيس  الوزراء الإيطالي بوجه حزين، يشتكي من تخلي الدول عنهم،  ويقر بالعجز، ويرفع راية الإستسلام، ويصرح أنه “انتهت حلول الأرض والأمر متروك للسماء”، هذا فضلا عن الرئيس الأمريكي ترامب الذي أعلن  الخامس عشر (15) مارس 2020، يوما  وطنيا للصلاة في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل التضرع لرفع وباء كورونا.

وكذلك الرئيس الفرنسي الذي أعلن أنهم ” في حرب حقيقية مع كوفيد(19)..”، وفي المقابل هناك من قلل من شأن هذه الجائحة واعتبرها “مجرد انفلونزا بسيطة” كما هو الشأن بالنسبة إلى الرئيس البرازيلي، وهو عين الأمر بالنسبة إلى الرئيس المكسيكي الذي صرح أنه “إذا كنت قادرا ولديك الوسائل، استمر في إخراج عائلتك لتناول الطعام” كما استغلها آخرون للتشفي وصب جام غيظهم على “الأعداء”، مثل تعليق الرئيس الزيمبابوي الذي اعتبر أن “الفيروس هو عمل من الله لمعاقبة الدول التي فرضت عقوبات علينا”..

وإذا كان هذا الأمر بالنسبة إلى زعماء الدول، فإن عامة الناس انتشرت لديهم خلفيات فكرية تعزو كورونا إلى نظرية المؤامرة.. أو ترجع سببها إلى حرب بيولوجية بغية بناء نظام عالمي جديد تسقط فيه دول وإمبراطوريات وتسود وتبرز فيه أخرى.

تفشي فيروس كورونا في العالم

وخلفيات أخرى ترى أن السبب يعود إلى إطلاق الجيل الخامس (G5) من الإنترنت الذي تنبعث منه أمواج كهرومغناطيسية تتسبب في أعراض تشبه أعراض الأنفلونزا.

وأفكار أخرى ترجعه إلى أنه سلاح بيولوجي على شكل غاز تُسَرع جهة ما انتشاره، وأن لقاحه متاح لكن لم يحن الوقت المناسب لكي يكون في متناول للجميع، وايديولوجيا أخرى عكازها الحرب الكلامية والاقتصادية والمعلوماتية ما بين الصين وأمريكا، وايران وأمريكا حول مصدره وكيفية انتشاره…

فشح المعلومات وندرة التفسيرات الدقيقة لهذا الفيروس تولدت معها إيديولوجيات تتغذى من معارف جاهزة أحيانا (اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو طبية…)، وأحيانا أخرى تطبعها صبغة علمية و حينا آخر يكون مصدرها أقرب ما يطلق عليها أنها أفكار ميتافيزيقية (أمور غير قابلة للتجربة والملاحظة).

إلى جانب الأفكار الايديولوجية انبنى عالم من المعتقدات لدى الناس، فكثير من المسلمين يحدوه ايمان راسخ بأن كورونا جند من جنود الله، وهو رحمة للمؤمن وعذاب للكافر، وهو رسالة من الله للناس أجمعين من أجل التوبة والأوبة إلى الله عز وجل.

وأنه نتيجة طبيعية بالنظر إلى ما وصل إليه البشر من طغيان وفساد، وظلم واستبداد… أما المسيحية فتراه شراً ولعنة، لأنه عمل بشكل مباشر أو غير مباشر يتسبب بالمعاناة للإنسان  وفي أفضل الحالات ينتهي الأمر بالموت…

وفي نفس السياق يؤكد بعض رجال الدين اليهود؛ أن كورونا علامة على ظهور المسيح وأنه انتقام من أفعال بعض البشر الشاذة والشريرة… ويلاحظ أن القاسم المشترك بين هذه التأويلات، أنها كلها تستند في منطلقاتها إلى أدلة نقلية من القرآن الكريم والسنة النبوية، أو من التراث الديني المسيحي واليهودي.

اتجاهات الناس حول فيروس كورونا، فإنها تتأرجح ما بين قطبين، فنجد أن فئة تعتبره فرصة إيجابية للجلوس مع الذات ومراجعته،  وفرصة أيضا لكوكب الأرض حيث تعافي ثقب الأوزون بنسبة كبيرة

أما الفئة الأخرى التى ترى فيه عاملا سلبيا حيث الحجر الصحي، وما يرافقه من حياة روتينية يملؤها العنف والملل،

أما اتجاهات الناس حول فيروس كورونا فإنها تتأرجح ما بين قطبين سلبي وآخر ايجابي، حيث يشمل الاتجاه الاستعدادات العاطفية والمعرفية والسلوكية، فنجد أن فئة من الناس تعتبره فرصة إيجابية للجلوس مع الذات ومراجعتها وتقييم أفعالها وسلوكاتها وفرصة أيضا لكوكب الأرض حيث تعافي ثقب الأوزون بنسبة كبيرة،وقلت الانبعاثات الغازية الملوثة التي مصدرها المعامل والسيارات.

وانتعشت حياة الحيوانات وقل الضجيج وتنفس الناس الصعداء من متطلبات الحياة وضغط الاستهلاك، وقَلتْ حوادث السير ونَدُرت السرقات والمشكلات الاجتماعية وتعززت ثقافة التضامن والتعاضد…

أما الفئة الأخرى التى ترى فيه عاملا سلبيا حيث الحجر الصحي، وما يرافقه من حياة روتينية يملؤها العنف والملل، ويسودها التنافر والتباعد، ويخيم عليها الجفاء العاطفي ويتسرب إليها الإحباط والضغط وإنتظار المجهول، وترقب كل ما يدعو إلى القلق والرجفة، ومتابعة معاناة المصابين ومأساة المفجوعين في قريب أو صديق.. وبالمجمل اتجاه يغلب عليه الشك وعدم اليقين.

وعموما فإن كورونا جعل الحياة الذهنية للناس عرضة للفوضى العقلية ويعتريها عدم اليقين، فهول الصدمة وشح المعلومات جعلت هذا التشتت الكبير في الآراء وهذا التباعد الصارخ في الإتجاهات وذلك التباين في الإيديولوجيات والمعتقدات الأمر الذي بدوره أثر على الحياة النفسية للناس في ظل أزمة كوفيد 19.

جودة الحياة النفسية لا يمكن اختزالها في المعارف عن الذات، لكن لابد من مراعاة عنصر ذو أهمية قصوى وهو الاحساس بالوجود(الخروج من التقوقع على الذات والتواصل).

كوفيد-19 وجودة الحياة النفسية.

تعرف منظمة الصحة العالمية OMS في الكثير من منشوراتها جودة الحياة النفسية كالآتي: “أنها التصور الذي يعطيه الفرد لمكانته الوجودية، في سياق الثقافة ونظام القيم الذي يعيش فيه، وذلك في علاقة مع أهدافه وانتظاراته ومعاييره ومخاوفه.

فجودة الحياة النفسية مرتبطة بطريقة مركبة مع: الصحة الجسدية، والحالة النفسية، ومستوى الاستقلالية والعلاقات الاجتماعية، والعلاقة مع البيئة والثقافة والسياسة”*.
فجودة الحياة النفسية لا يمكن اختزالها في المعارف عن الذات، لكن لابد من مراعاة عنصر ذي أهمية قصوى، وهو الاحساس بالوجود(الخروج من التقوقع على الذات والتواصل).

وذلك ليكون الإنسان فاعلا في حياته الخاصة؛ عن طريق عمليات التكيف والتأقلم (تدبير المخاوف وعدم اليقين..) والتوجيه (الأهداف والانتظارات والمشاريع) والدلالات (الثقافة والمعايير والقيم) والتصالح (مع الناس، ومع المؤسسات ومع البيئة)، والصحة والاستقلالية، بمعنى آخر، إنها السيرورات والاستراتيجيات والتصرفات التي عن طريقها يبني ويطور ويدافع ويتفاعل ويقدم الشخص معنى وقيمة..وهنا تكمن أهمية دينامية الهوية الانسانية. فكيف يمكن تقييم جودة الحياة في أزمة كوفيد 19؟

لمتابعة المقال الأول:

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها