صرخة فلويد وأيام الطيب صالح

مظاهرات واسعة إثر مقتل أمريكي أسود على يد رجل شرطة
مظاهرات واسعة إثر مقتل أمريكي أسود على يد رجل شرطة

الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في عواصم العالم اليوم، تغري المرء بالعودة لتقليب أوراق قديمة تناولت جذرو المشكلة.

فالغضب المتفجر حول العالم يشير إلى أن الأمر أعمق بكثير من مجرد احتجاج على حادثة مقتل جورج فلويد البشعة، بل ربما يخفي خلفه حنقا تاريخيا أعمق من ذلك بكثير.

وقد ساقتني هذه الأحداث إلى ذكرى أديب السودان العظيم الأستاذ الطيب صالح رحمه الله، وبعض من كتاباته المتعلقة بجذور الصراعات العنصرية في أفريقيا.

وتذكرت أيضا بعضا مما سمعته منه وذكره في لقاء صحفي كنت أجريته معه قبل أكثر من عقدين من الزمان، تنبأ فيه حينها بكثير مما حدث لاحقا ولعل أبرزه  انفصال جنوب السودان بعد ذلك الحديث بعشر سنين.

كما توقع الأستاذ الطيب صالح تعاظم استغلال الغرب لأفريقيا عبر تغذية النعرات العنصرية والصراعات البطيئة low intensity conflict عبر السنين وغيرها مما نراه ماثلا في أكثر من مكان الآن.

ولأن تتابع القصص على نشرات التلفزة يحفز على البحث عن نظرية (قطع الدومينو ) إن وجدت، لربط كل شيء بكل شيء مما يحدث.

فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي مثلا يحفز على التساؤل عن خطط بريطانيا لتعويض فاقدها التجارى والاقتصادي بل والنفوذ السياسي ربما بالعودة المرتقبة إلى مستعمراتها القديمة ضمن التنافس الدولي المحموم على موارد العالم وأفريقيا على وجه الخصوص.

وبالتالي يرتبط هذا الخبر بالخبر الذي يليه والذي يكشف  عن حماس بعض الدول الغربية للتدخل في تشكيل المستقبل السياسي لبلد مثل السودان إلى درجة إعداد وصياغة قرارات لمجلس الأمن الدولي من قبل بريطانيا وألمانيا تشرعن تدخل الأمم المتحدة (لمساعدة) السودان.

نازحون جنوب السودان

 

بينما يترك البلد في ذات الوقت  يرزح تحت قيد العقوبات الاقتصادية والسياسية، ليقبل بشروط المساعدة، وكذلك تترك صراعات أكثر دموية في مناطق أخرى من العالم دون محاولات للتدخل والمساعدة ربما لغياب الحوافز غير المعلنة.

القراءة والتأمل في جذور الأزمة السودانية المزمنة على سبيل المثال يبرز موضوع الصراع العرقي كأحد أوجه تراجع الدولة السودانية، منذ الاستقلال رغم مواردها الوفيرة .

فقد ظلت مشكلة جنوب السودان عقبة كأداء أمام الحكومات المتعاقبة وانتهت بفصل جنوب السودان مقابل صفقه مع نظام الإنقاذ  لقاء وعود غربية بمكافأة السودان إن هو قبل استفتاء تقرير المصير للجنوب.

ولكن ما لبث الجنوب أن دخل بدوره في دوامة من العنف القبلي والنزاعات المسلحة بعد الانفصال، هكذا تحت سمع وبصر أصدقاء الانفصال وتقرير المصير ودون رغبة في تدخلهم لحقن الدماء.

لكن عملية فصل جنوب السودان لم تكن لتحدث إلا بعد سنوات طويلة من الحروب والنزاع والعمل الثقافي والسياسي المتكامل، يورد الطيب صالح على سبيل المثال مقولة لأحد أبرز السياسيين الجنوبيين وهي تكشف جزءا من كيفية صناعة التعاطف مع الضحية وتزكية الأزمات عبر عقود من الزمن لتكريس تفكيك المجتمعات وتقسيمها.

قال السيد بونا ملوال السياسي والوزير السابق في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، خلال إحدي الندوات حول الشأن السوداني في مدينة بوسطن الأمريكية “إن السودان أرض سائبة للاستثمار أو البيع وأنه يشبه طفلا غير شرعي وأنه لابد من تفكيك القطر بأكمله وإعادة صياغته من جديد”.

وهي ذات الدعوة التي تبنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان وحلفاؤها من بعض نخب الشمال، وبرر بونا ملوال ذلك الهجوم القاسي على بلد كان هو نفسه وزيرا قوميا ومسؤلا بارزا فيه لسبع سنوات، بأن الشماليين ذوي الأصول العربية يستعبدون السود ويتاجرون في الرقيق وأنهم أسوأ من البيض في نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا.

ولا يسر المرء أن يري أن النظرة العنصرية الغربية تجاه الأفارقة السود لا تزال كما هي حتى في مجتمعات تدعي أنها قامت على تعدد الأعراق مثل المجتمع الأمريكي والأوروبي.

وكان واضحا أن الرجل يخاطب الرأي العام الأمريكي والغربي بما يستثير عواطفه وضغائنه في موضوع يشكل عقدة ضمير كبرى في الغرب، وبالرغم من هذا عاد الرجل نفسه؛ وقال في إحدى الصحف السودانية “. نعم سعيت لانفصال الجنوب لسنوات ولكنني سأقضي بقيه حياتي وأكتب مذكراتي في الخرطوم، حيث بيتي وأصدقائي”

ودعا مثلما دعت الحركة الشعبية الجنوبية أن يعطي الجنوبيين الجنسية المزدوجة في الجنوب وفي الشمال الذي أرادوا الانفصال عنه، وكان ذلك الحديث قبيل انفصال الجنوب بزمن قليل.

وفي خضم هذه الاتهامات الأخلاقية القاسية تجاه الشماليين والتي تصاعدت يستشهد الأستاذ الطيب صالح ببعض من ما جاء في كتاب (العاج الأسود) لمؤلفه جيمس والفن أستاذ التاريخ في جامعة يورك البريطانية، والذي يورد فيه حقائق عن تجارة الرقيق في أفريقيا خلال الحقب الاستعمارية، إذ يذكر المؤلف أن دور العرب في هذه التجارة القذرة؛ كان موجودا عبر السماسرة والمغامرين.

ولكنه كان ضئيلا جداً عبر الصحراء والبحر الأحمر وشرق أفريقيا مقارنة بحوالي خمسة عشر إلى خمسين مليونا من الرقيق تم نقلهم عبر الأطلسي والساحل الغربي لأفريقيا ليموت ما نسبته عشرة إلى عشرين بالمئة من هؤلاء؛ وهم في طريقهم إلى فرنسا وبريطانيا وأمريكا الشمالية.

ويبين الكاتب أن هذه التجارة كانت ضخمة ومنظمة وتسندها مؤسسات إدارية وعسكرية ومصارف كبيرة، بل، وكانت النظرة حينئذ إليها على أنها تجارة الملوك والأثرياء وعلية القوم وأن القبول الأخلاقي لهذه الممارسة اللإنسانية البشعة في الغرب كان متسقا مع شيوع نظرية التفوق العرقي التي تصف الإنسان الأفريقي بالدونية.

 ويخلص الطيب صالح إلى أن تجارة الرقيق ومؤسساتها الغربية الضخمة قد مهدت الطريق لاحقا وبشكل منطقي إلى ممارسة ومؤسسة أعم وأشمل، وهي الاستعمار الأوربي الذي اجتاح الدول الأفريقية لاحقا.

رغم ذلك لم تسلم المجتمعات العربية والإسلامية في أفريقيا ولا الثقافة العربية الإسلامية من وزر تلك التهم، ولم يكن ممكنا لها أن تدفع عن نفسها بأن دينها الإسلام جاء ليحرم الاستبعاد الذي كان سائدا في الجزيرة العربية.

حادثة جورج فلويد الأخيرة واستغاثته المحزنة البائسة بصوته المتحشرج (لا استطيع أن أتنفس)  أشبه ما تكون في بؤسها وحزنها باستغاثة الأفارقة كلهم (لا نستطيع أن نتقدم)       

بل بالعكس تحيز الرأي العام الغربي تجاه تلك المجتمعات بظهور حركات تدعو إلى مزيد من التدخل الغربي في أفريقيا لمحاربة تجارة الرقيق

واستخدمت هذه ذريعة إضافية لاستعمار عدد من الدول الأفريقية واستنزاف ثرواتها وقواها البشرية بينما تنتصب تماثيل الفخر والتمجيد لأباطرة تجارة الرقيق الغربيين في ميادين وساحات المدن الأوربية والأمربكية إلى اليوم.

ولا يسر المرء أن يرى أن النظرة العنصرية الغربية تجاه الأفارقة السود لا تزال كما هي حتى في مجتمعات تدعي أنها قامت على تعدد الأعراق مثل المجتمع الأمريكي والأوربي.

مما أدى إلى تفجر هذه الانتفاضة الهائلة التي تنتظم مدن العالم هذه الأيام ، ومن ناحية أخرى  لا تزال الأطماع المتزايدة في الهيمنة على موارد الدول الأفريقية  كما هي، وإن اتخذت أشكالا أكثرا ذكاء من ذي قبل.

عبر خلق مناطق التوتر والنزاع التي تجعل التدخل لاحقا (لإحلال السلام) أمرا حتميا بل ومطلوبا رغم المفارقة التي كشفتها حادثة جورج فلويد الأخيرة واستغاثته المحزنة البائسة بصوته المتحشرج (لا أستطيع أن أتنفس) وهي أشبه ما تكون في بؤسها وحزنها باستغاثة الأفارقة كلهم (لا نستطيع أن نتقدم) بينما ركبة العالم الغربي الأبيض على حنجرتي. 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها