ماذا لو استقال راشد الغنوشي؟

رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي

اللافت من هذا المقتطف مغازلة حركة النهضة لرجال الأعمال ورؤوس أموالهم، مع الدعوة إلى توسيع الحزام السياسيّ، في تمهيدٍ لإجراء تحوير وزاريّ.

يُطرح السؤال بجدّية هذه الأيّام، وقد ارتفعت الأصوات التي تنصحه بذلك من قياديّين في حركة النهضة. لكنّ أنصاره يتجاهلون تلك الحقيقة، فيوهمونه بأنّ تونس مازالت في حاجة إليه كما كان يُقال لكلّ من يُعمّر في أحضان السلطة ولا يغادرها إلاّ عندما تلتفّ الساق بالساق.

كان راشد الغنوشي بارعا في إسكات معارضيه من خارج الحركة، فحصلوا على مناصب في الدولة، وصارت تلك  الممارسة تكتيكا رئيسيّا تتعامل به النهضة مع خصومها.

فمن يتفوّق في تشويهها بشتّى النعوت يحصل على المكافأة فيدخل الوزارة، لتتحوّل الشتائم إلى مودّات وموائد على أنغام أغنية شهيرة يقول مطلعها: “شبكنا الحكومة وبقينا حبايب”.

بهذه الخطّة ربح الغنوشي وخسرت حركة النهضة الكثير من رصيدها لدى من يصنّفها ضمن حركات “الإسلام السياسيّ” المتشبّعة بالقيم الأصيلة ومكارم الأخلاق، كما يُروّج لأنصارها..

كانت آخر أرباح الغنوشي، حصوله على رئاسة مجلس النوّاب بعد أن أقنع كتلة “قلب تونس” بالتصويت لصالحه، بالرغم من كلّ ما قيل خلال الانتخابات التشريعيّة حيث تعهّد رئيسُ الحركة بأنّه لن يتحالف مع “حزب الفساد”،ولن يتوافق مع نبيل القروي المتّهم “بالتحيّل وغسل الأموال والتهرّب الضريبيّ”..

قال الغنوشي ذلك مرارا، ولكنّه يسعى اليوم لتأمين ثمن الصفقة التي أوصلته إلى رئاسة مجلس النواب بعد جلسة المساءلة الصاخبة التي ستعقبها جلسات للمطالبة بسحب الثقة منه.

ولن ينجو من ذلك المصير إلاّ بضمان أصوات الذين يعدهم بالمشاركة في الحكم، حيث قال بوضوح على قناة نسمة المملوكة لنبيل القروي:”نطالب بتعديلات داخل الحكم لخلق توازن بين الحكومة والبرلمان وتناغم بين الأحزاب المشاركة فيها”.

ومن جهة أخرى، رفض الإمضاء على وثيقة “التضامن الحكومي” انتقاما من حلفائه الذين انضمّوا إلى كتلة عبير موسي، وكالوا له الانتقادات والشتائم، “فَأَوْفُوا الكَيْل والمِيزان”.
لقد بات التصدّع بين مكوّنات الحكومة شديد الوضوح، فبعد مشاركة حركة الشعب في التثريب على الغنوشي.

غرّد وزير أملاك الدولة غازي الشواشي (من التيار الديمقراطي) بما يفيد معارضته للبيان الذي أصدرته حركة النهضة وعبّرت فيه عن انشغالها أمام ” تنامي خطاب التحريض ضدّ رجال الأعمال وشيطنة الرأسمال الوطني.

الأمر الذي يدعو الحكومة إلى المثابرة على إدارة الحوار بين جميع الأطراف السياسية وتوسيع الحزام السياسي الداعم للحكومة للنجاح في وضع برنامج إنقاذ اقتصادي واجتماعي”.

واللافت من هذا المقتطف مغازلة حركة النهضة لرجال الأعمال ورؤوس أموالهم، مع الدعوة إلى توسيع الحزام السياسيّ، في تمهيدٍ لإجراء (تحوير) وزاريّ يكافئ حزب القروي بالمشاركة في إدارة الشأن العام، ويعاقب حركة الشعب بالإقصاء عن السلطة.

لكنّ الشواشي عارض ذلك التوجّه قائلا:”الدولة القويّة والعادلة لا يمكن أن تدعم إلا الرأسمال الوطني والنظيف”. والمعلوم أنّه استأنف ملاحقة رجال الأعمال ممّن صدرت في حقّهم أحكام قضائيّة باتّة، لتفعيل شعارات حزبه المنادية بمقاومة الفساد، واسترجاع الأموال المنهوبة.

يواجه راشد الغنوشي اليوم نفس المأزق الذي دُبّر للرئيس الراحل قايد السبسي عندما أراد إقالة يوسف الشاهد، ولم ينجح.

وإمعانا في تجاوز الغنوشي وعزله عن الواقع السياسيّ المفروض، عارض رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ فكرة التحوير الوزاريّ، مذكّرا برفضه تشريك “قلب تونس” منذ البداية على أساس مبدأ التوافق الذي يعتبره “بدعة” جُرّبت وفشلت..

وهكذا يواجه الغنوشي اليوم نفس المأزق الذي دُبّر للرئيس الراحل قايد السبسي عندما أراد إقالة يوسف الشاهد، ولم ينجح.

إنّها بداية النهاية، والمحاسبة جارية منذ فترة، حيث لا يظفر الباحث النزيه بشيء يذكر في مجال المكاسب التي أفادت الشعب ضمن ما اقترحته حركة النهضة من تشريعات خلال السنوات العشر من تصدّرها المشهد النيابيّ.

البرلمان التونسي

 

وفي هذا الباب، جادت قريحتها بالدعوة إلى بعث صندوق للزكاة وفشلت في الوصول إلى تشريع يقرّه، ولكنّها نجحت في المقابل في تأجيج الصراع بين التونسيّين بتحريك العاطفة الدينية لدى قواعدها التي مازالت تتصوّر أنّ في تونس معركة بين المسلمين والكفّار!

إنه لا شكّ في أنّ حركة النهضة جنّبت البلاد الانزلاق إلى مربّع العنف بفضل حسن إدارتها للحوار السياسيّ مع خصومها، ولكنّها تنازلت في الأثناء عن الكثير من أهداف الثورة بمبادرات يتحمّل راشد الغنوشي مسؤوليّتها.

فقد استحوذ رئيس الحركة على سلطة قرارها بحكم الصلاحيّات التي يتمتّع بها، وعلى رأسها دوره في تعيين أعضاء المكتب التنفيذيّ المسئول عن الخطّ السياسيّ للحزب، ما يؤهّله لضبط توجّهاته على الشاكلة التي ترضيه ولا ترضي بالضرورة القواعد وبعض القيادات التي لم تعد قادرة على كتمان امتعاضها.

وفي هذا السياق، قال عبد اللطيف المكّي: “نريد حركة لديها زعيم وليس زعيما لديه حركة”. وفي تصريح إذاعيّ جديد، إعتبر المكّي أنّ الغنوشي تسبّب: “في جرح غائر سيبقى في الرصيد السلبي لرئيس الحركة لأنّه ضرَب مسألتين في حركة النهضة، المسألة الديمقراطيّة، والمسألة الأخلاقيّة. وهذا نوع من الخروج عن تقاليد الحركة”.

إنّ ذلك التشخيص من قياديّ رصين في حركة النهضة، يؤكّد الحالة المرضيّة المتقدّمة التي أصابت الحركة وانتشرت عدواها لتطال مؤسّسات الدولة بسبب حبّ السيطرة ومراكمة السلطات لدى شخص واحد.

لا شكّ في أنّ حركة النهضة جنّبت البلاد الانزلاق إلى مربّع العنف بفضل حسن إدارتها للحوار السياسيّ مع خصومها، ولكنّها تنازلت في الأثناء عن الكثير من أهداف الثورة بمبادرات يتحمّل راشد الغنوشي مسؤوليّتها.

والنتيجة ما نراه اليوم من صراعات وتوتّرات في مجلس النوّاب، وداخل حركة النهضة المنقسمة إلى مناصرين لهيمنة الغنوشي من جهة ومطالبين بإحالته على التقاعد من جهة أخرى.

ولعلّ تأجيل المؤتمر الحادي عشر الذي لم ينعقد في موعده المقرّر، يؤكّد رغبة الشيخ في المحافظة على سلطانه داخل الحزب ليستفيد منه في رئاسة البرلمان بواسطة التفاهمات التي يبطلها والتحالفات البديلة التي يعقدها… فالمؤكّد أنّ السقوط في موقع مّا سيؤدّي بالضرورة إلى سقوط مماثل في الموقع الثاني.

وإجمالا لما تقدّم، ولأنّ جلسة المساءلة الأخيرة وضعت الغنوشي في موقف لا يحسد عليه، وحماية لما بقي في رصيد النهضة أو سجلّها الأخلاقيّ، يوجب على من نصحوا الشيخ بعدم الترشّح لرئاسة البرلمان، أن يعيدوا الكرّة توجيها وإرشادا ليقنعوه بالانسحاب من الحياة السياسيّة بقرار شجاع يتّخذه بنفسه.

قبل أن يسقط  في نهاية معارك قادمة، ستكون شديدة الوطأة عليه وعلى حزبه وعلى الشعب في نهاية المطاف… ولن يغفر الشعب لأحد تشويه مؤسسات الدولة بنزاعات عبثيّة لا تهمّه من قريب أو من بعيد.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها