هل تغيّر مفهوم المدرسة بعد كورونا؟

فيروس كورونا تسبب في إغلاق المدارس في 191 بلدا حول العالم
فيروس كورونا تسبب في إغلاق المدارس في 191 بلدا حول العالم

إن أسوأ ما في المدرسة الافتراضيّة عجزها عن لعب ذلك الدور، فالمدرسة بمفهومها التقليديّ، توفّر الفضاء الأنسب لمخالطة الأقران وتكوين الصداقات التي تساهم في تنشئة الأجيال على نهج سليم.

ظنّ البعض من أصحاب القرار في الِشأن التربويّ قبل أزمة كورونا، أنّ تطوير التعليم مقترن بمواكبة العصر ورقمنة الوسائل والمضامين.

فلمّا أغلقت المدارس بسبب الجائحة، ودُعي المدرّسون والطلاّب إلى إنجاز أعمالهم عن بعد، اكتشف الجميع قصور التجربة وعجزها عن تعويض الحضور في الفصول.

ونقصد بالجميع كلّ المشاركين من بعيد أو من قريب في تلك العمليّة الفريدة التي فرضتها إجراءات الحجر الصحيّ، وعددهم كبير يشمل وزراء التعليم ومستشاريهم، والمدرّسين والمشرفين عليهم، والطلاّب وأولياء أمورهم، بالإضافة إلى الشركات التي توفّر الأجهزة وبرامج الذكاء الصناعيّ.

والتي تحاول جاهدة في تنافس محموم إقناع الحكومات بجدوى ما تخترعه وتطوّره لتشتري تقنياتها ومنصّاتها وتفرضها على المستهلكين في كلّ المجالات.
 لا يتعلّق القصور المشار إليه بصعوبات ماديّة تخصّ الدول الفقيرة وحتّى الفئات المهمّشة في دول توصف بالغنيّة، بقدر ما يتعلّق بمشاكل بيداغوجيّة إجرائيّة لاحظها المشرفون على سير ذلك التعليم في فضاء افتراضي غير مريح.

ما جعل النتائج المعلنة تنبّه إلى ضعف الجدوى، واستحالة ضمان التكوين العلميّ الصلب لجميع الطلاّب، فبقاء التلميذ في البيت، ليستفيد بقدر ينقص أو يزيد من مساعدة الأهل، سيحرمه من مواجهة الصعاب والتدرّب على حلّها بصفة فرديّة كما يحدث في الفصل حيث لا يستطيع التعويل إلاّ على ما سيكتسبه من المهارات بجهده الخاص. ونبّهت تقارير حديثة إلى اضطرابات شابت عمليّة التواصل بين المدرّسين والطلاّب، فضلا عن متاعب أخرى تتعلّق بمخاطر العمل ساعات طويلة أمام شاشات الحواسيب والهواتف والألواح.

فلمّا أغلقت المدارس بسبب الجائحة، ودُعي المدرّسون والطلاّب إلى إنجاز أعمالهم عن بعد، اكتشف الجميع قصور التجربة وعجزها عن تعويض الحضور في الفصول..

ومن شأن تلك النقائص أن تؤثّر على حماسة المتسرّعين الذين كانوا يروّجون لتصوّر جديد عن مدرسة المستقبل، فراهنوا من زمان على ترحيلها إلى فضاءات افتراضيّة، ليرتبط مفهومها ومصيرها بالثورة التكنولوجيّة التي تعمل منذ فترة على استبعاد اليد العالمة البشرية وتعويضها بأكوام من التطبيقات والموارد التي تتفاوت في درجة ذكائها ونفعها.

لكنّ منتجي تلك المحتويات يحرصون على توصيفها بكونها على درجة كبيرة من الذكاء الذي لا غنى عنه، حتّى رسخت لدى العامّة والخاصّة رؤية إيجابيّة تشيد بها وتصرف على اقتنائها بسخاء.
والمفارقة أنّ عباقرة “وادي السليكون” الذين يُصنّعون تلك المحتويات وينصحون بها، نأوْا بأبنائهم عنها، فقد اعترف بيل غيتس، وستيف جوبز وغيرهم من مشاهير ذلك الميدان في تصريحات صحفيّة سابقة، أنّهم قاموا بتنشئة أبنائهم وتعليمهم بعيدا عن المنتجات التكنولوجيّة التي يروّجون لها.
إنّه لا مانع طبعا من الاستفادة، دون إفراط أو تفريط، بما ينتجه هؤلاء في مجالات تعليميّة أثبتت جدواها. ولكنّ المدرسة باعتبارها فضاء شاسعا يتكوّن من فصول وساحات وملاعب ومطاعم، لا يمكن أن تتحوّل إلى مجرّد تطبيق في حاسوب لوحيّ يغنينا عن جرسها وصخبها وامتحاناتها بكلّ ما تعنيه من خيبات حزينة ونجاحات سارّة.. فجميع ذلك يمثّل دروسا على قدر كبير من الأهميّة في مسيرة المتعلّمين.
والمعلوم، أنّ دور المدرسة والمدرّس لا يمكن اختصاره في تلقين قاعدة نحويّة أو تحليل حدث تاريخيّ أو إنجاز تجربة كيميائيّة، على أهميّة كلّ ذلك وغيره في تكوين الطلاّب معرفيّا، فالمدرسة أكبر من ذلك بكثير، ودور المدرّس فيها يتجاوز مهمّة التعليم إلى التربية بما تحمله الكلمة من معاني الإحاطة والتوجيه، في كلّ ما يخصّ التلميذ على مستوى المظهر والمسلك والعلاقات مع زملائه وكلّ العاملين الذين يشاركونه نفس الفضاء ويسهرون على توفير الظروف الملائمة للتعارف والتعايش والتراحم.

المفارقة أنّ عباقرة “وادي السليكون” الذين يُصنّعون تلك المحتويات وينصحون بها، نأوْا بأبنائهم عنها، فقد اعترف بيل غيتس، وستيف جوبز وغيرهم، أنّهم قاموا بتنشئة أبنائهم وتعليمهم بعيدا عن المنتجات التكنولوجيّة التي يروّجون له

وتلك الوظيفة لا مكان لها في منصّات التعليم، وفي تطبيقاته المحايدة لأنّها موجّهة إلى ثقافات متنوّعة، فليس لجوجل على سبيل المثال هويّة مخصوصة، ولا يمكنه أن يفضّل ثقافة على أخرى أو يروّج لنهج تربويّ معيّن.. وهكذا يبقى دور المعلّم قائما، وبصفته التي ذكرها الشاعر أحمد شوقي في قوله: “كاد المعلّم أن يكون رسولا”.
ولا يكون المعلّم في مقام الرسول إلاّ بذلك الدور التربويّ الذي يجعل منه “داعية” إلى مكارم الأخلاق وكلّ القيم النبيلة السائدة في مجتمعه لضمان استمرارها جيلا بعد جيل.
إنّ أسوء ما في المدرسة الافتراضيّة أو في التعلّم عن بعد، عجزها عن لعب ذلك الدور، فالمدرسة بمفهومها التقليديّ، توفّر الفضاء الأنسب لمخالطة الأقران وتكوين الصداقات التي تساهم في تنشئة الأجيال على نهج سليم.. ويلعب المعلّم في ذلك التمرين دورا رئيسا في تشكيل شخصيّة الطلاّب وإنضاج عقولهم وصقل طباعهم. والمؤكّد أنّ الأطفال يتعلّمون في كلّ يوم من أخطائهم وحماقاتهم بقدر ما يتعلّمون من الكتب والدفاتر. يكوّنون صداقات وعداوات، ويستفيدون من كلّ ذلك في وسط مغاير لا يشبه البيت ولا يجب أن يشبهه. ففي المدرسة ينسحب الآباء، ليواجه أبناؤهم مصيرهم لوحدهم، ويَلِجُون نظاما جديدا من العلاقات، يختبرونه بعيدا عن الأسرة وحمايتها.. إنّه أهمّ امتحان في الحياة، حيث يتوجّب عليهم تحمّل المسؤوليّة الثقيلة التي كانوا في حِلّ عنها داخل بيوتهم.
ستكون المدرسة بهذا المعنى فضاء لحياة صاخبة، مليئة بالمفاجآت، تحكمها صراعات كثيرة فيها الصداقةُ والعداوةُ، والثناءُ والعقابُ، والمحبّةُ والكراهيّة..

وقد اختزل أحمد أمين تلك المعاني في حديثه عن الكتاتيب والمدارس التي حلّ بها متعلّما، فقال مستنتجا:” كانت المدرسة بتلاميذها ومدرّسيها وناظرها تمثل رواية مملوءة بالحياة والحركة والمناظر، تكون أحياناً مأساةً، وأحياناً ملهاةً”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها