باقة ورد وفساد أمام قيس سعيّد!

الرئيس التونسي يحمل المساعدات

صلاحيّات الرئيس المحدودة لا تمكّنه من الإنخراط بقوّة في مقاومة الفساد الماليّ الذي ينخر اقتصاد الدولة، ولكنّه تعهّد للتونسيّين في مناسبات عديدة قبل تولّيه السلطة بالتصدي للمفسدين.

انخرط الرئيس التونسي قيس سعيد بقوّة في نادي “الشعبويّة”، ومن أمارتها الجديدة التي ظهرت مؤخّرا، تسريب وثيقة تخصّ صفقة ملغاة لتزويد مؤسّسة الرئاسة بالأزهار.

ونشرت بعض المواقع الإعلاميّة الوثيقة بعد تداولها على منصّات التواصل الاجتماعيّ، تحت عنوان: ” قيس سعيّد يلغي طلب العروض للتزوّد بالأزهار والباقات والأكاليل لفائدة مؤسّسة رئاسة الجمهورية”..

وقد حرص الرئيس على إضافة تعليق بخطّ يده فكتب:” يُلغى طلب العروض هذا، عامّةُ التونسيين يعيشون الحرمان والفقر، وهذه أموالهم يجب أن تعود إليهم”..
وهكذا لا يراودنا أدنى شكّ في أنّ تخطيطا مسبقا لذلك التسريب وقع بالفعل وبحبكة مثيرة للسخرية، تسعى لإبراز حرص الرئيس على حقوق الفقراء والمحتاجين.. 

فالملاحظ في ذلك الخبر العاجل أو المتسرّع أنّ قيمة الصفقة لا يمكن أن تثير القلق الذي تثيره صفقات نهب المال العام المبرمة في الخفاء..

تبلغ قيمة صفقة الزهور الملغاة مائة ألف دولار تقريبا ، فضّل الرئيس إبقاءها في “بيت مال المسلمين”، كما يحلو له أن يعبّر متشبّها بعمر بن الخطّاب، فهو يخرج ليلا ليتفقّد “الرعيّة” ويوزّع المساعدات على مستحقّيها مع الحرص على حملها بنفسه كما كان يفعل “أمير المؤمنين”.

ولا يعلم التونسيّون إلاّ بالقليل منها بفضل جهود تبذلها جهات رقابيّة مستقلّة، فتُخرج بعض الملفّات الثقيلة إلى العلن، ثمّ تحيلها إلى القضاء، ليطويها النسيان والإهمال المتعمّد، بسبب فساد الإدارة نفسها، وعجز السلطة القضائيّة عن القيام بدورها نتيجة الضغوط المسلّطة عليها.

تبلغ قيمة صفقة الزهور الملغاة مائة ألف دولار تقريبا ، فضّل الرئيس قيس سعيّد إبقاءها في “بيت مال المسلمين”، كما يحلو له أن يعبّر متشبّها بعمر بن الخطّاب، فهو يخرج ليلا ليتفقّد “الرعيّة” ويوزّع المساعدات على مستحقّيها مع الحرص على حملها بنفسه كما كان يفعل “أمير المؤمنين”.

وتلك أمارات أخرى تثبت نهجه الشعبويّ الذي صار يثير الكثير من الانتقادات، ويغذّي المخاوف والشكوك بشأن قدرته على الحكم بأدوات العصر وضوابطه الدستوريّة ما دام يتحدّث بمنطق الراعي والرعيّة، ويذكر “بيت مال المسلمين”.

صحيح أنّ صلاحيّات الرئيس المحدودة لا تمكّنه من الإنخراط بقوّة في مقاومة الفساد الماليّ الذي ينخر اقتصاد الدولة، ولكنّه تعهّد للتونسيّين في مناسبات عديدة قبل تولّيه السلطة وبعدها بأنّ قضيّته الأولى هي التصدّي للمفسدين الذين يكنزون الثروات الهائلة في الداخل والخارج بوسائل غير مشروعة.

فقال في خطاب التسليم أمام مجلس النوّاب:” لا تسامح في إهدار مليم واحد من عرق أبناء شعبنا، ليتذكّر الجميع شهداء الثورة الذين ماتوا وهم يناهضون الفساد”.

لقد استبشر التونسيّون بذلك القول، فصدّقوه واعتقدوا أنّ الوقت قد حان لتفكيك “مافيا” المفسدين الذين يطنّون أنّهم فوق المحاسبة القانونيّة. فإذا كان الرئيس جادّا فيما يقول، فعليه أن يلتفت يمنة ويسرة ليجد اللصوص الكبار على مقربة منه بعد أن تسلّلوا إلى مواقع القرار.

فقد صرّح شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد قائلا لوسائل الإعلام مرارا وتكرارا: “إنّ بعض الفاسدين يُحصّنون أنفسهم بالقفز إلى مركب قيادة الدولة وإنّ العديد منهم موجودون في مفاصل الدولة وفي الحكم..، وهم يستغلّون النصوص القانونيّة للإفلات من العقاب على غرار الفساد في الصفقات العموميّة وذلك تحت حماية منظومة ترتيبيّة وتشريعيّة”.

لا تبطل إذا شئت تلك صفقة لأنّ الورد جميل، وتجّاره يواجهون مثل غيرهم أزمة ركود بسبب كورونا، فلا لوم على من يشتريه بأغلى الأثمان

لكنّ الرئيس منشغلٌ عن ذلك التشخيص بتتبّع ملفّات الفساد الصغير، ما يدلّ ربّما على عجزه، أو افتقاره للشجاعة حتّى يحارب الفساد الكبير المتغلغل في مفاصل الدولة كما أكّدته هيئاتها الرقابيّة على امتداد السنوات العجاف التي أعقبت ثورة الياسمين.
تفضّل يا سيادة الرئيس، أثبت لنا مع رئيس الحكومة الذي اخترته بنفسك أنّ قضيّتك الأولى هي أموال التونسيين الذين “يعيشون الحرمان والفقر” كما كتبتَ بخطّ يدك على فاتورة لشراء الأزهار.

ولا تبطل إذا شئت تلك صفقة لأنّ الورد جميل، وتجّاره يواجهون مثل غيرهم أزمة ركود بسبب كورونا، فلا لوم على من يشتريه بأغلى الأثمان، وقد ذكره الشاعر العظيم نزار قباني مقترنا بتونس الخضراء فقال: يا تونس الخضراء جئتك عاشقا، وعلى جبيني وردة وكتابُ.
ثمّ تساءل في بيت آخر من نفس القصيدة: هل دولةُ الحبّ التي أسّستُها، سقطت عليّ وسُدُّت الأبوابُ؟
وبناء على ما تقدّم، يجوز لنا أن نوجّه سؤال نزار لسيادة الرئيس الذي لا يشكّ أحدٌ في مدى حبّه لهذا الوطن، وسعيه إلى فتح أبواب كثيرة لتحقيق نهضته ورقيّه..

ولعلّه يستطيع، وبوسعنا المزيد من الإنتظار. فإن عجز عن ذلك الفعل، ورضي بأنْ يكون مع الخوالف، فالمؤكّد أنّ الدولة ستسقط قريبا ليس عليه فقط بل على الجميع…

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها