مدينتهم

لقطة من إعلان "مدينتي" في مصر

تستيقظ من نومها على صوت عصافير بطنها، تستغيث تدلف إلى المطبخ تفتح الثلاجة فتجدها وكأنها قد خرجت من ويلات الحرب للتو.

حيث لا تجد فيها سوى كسرة خبز وقطعة جبن قديمة عفى عليها الزمن تمسكها بين يديها تقربها قليلا من أنفها تتراجع. تُقبّلها وتضعها في الثلاجة مرة أخرى.
كيف ستأكل منها لليوم الخامس على التوالى ناهيك عن أنها تشك في أمرها إن كانت حية أم ميتة.
تؤثر السلامة . تخرج من المطبخ وتقرر أن تتابع شيئا مما يقولون عليه تسالي رمضانية في تلفاز بلدها العجيب، لأن شعورها بالجوع والملل يجعلانها تضطر لهذا الفعل المشين.
الحياة حلوة مفيش تلوث، الشوارع واسعة، الهدوء، مساحات خضراء، مش مضطرين اننا نطلع بره، الناس كلها شبه بعض!!
الأمان، الخصوصية، وغيرها من الجمل التى ظلت تنهال عليها مثل البرق، كلما حاولت أن تغلقه وجدت شيئا ما يجعلها تكمل ربما كي تكذب عينها، ربما لشعورها أنها في كابوس!
كابوس حياتها الذي لا ينتهي تتلفت وتنظر حولها، تجلس على أريكة متهالكة من أيام الملك مينا. رائحة عطنة تغطي المكان تعيش مع عائلتها المكونة من خمسة أفراد وقد تخطت الأربعين وفاتها قطار الزواج لأنها تتولى الإنفاق على أمها وإخوتها.

أتحدث هنا عن اللغة التى يصدرها لنا هذا الإعلان ما هذه العنصرية والطبقية لماذا  تتحدثون إلى الناس وكأنكم تتحدثون إلى بلد آخر وشعب آخر أو كأنكم من طينة أخرى أو كوكب آخر.

تتحمل نفقات قوتهم اليومي الذي لا يكفى فى معظم الأحوال ناهيك عن نفقات المدارس، المدارس الحكومية التي لا تشبه فى فخامتها ومستواها التعليمي مدارس تلك المدينة التي رأتها  فى الإعلان.
نظرت من النافذة، شباك صغير يطل على زقاق يتزين ببركة صرف صحي تزيد المكان بهجة وجمالا  يتنامى الى مسامعها كل يوم،أصوات الجيران وهم يتشاجرون، تزكم أنفها رائحة تقلية البصل التى تخترق معدتها فتصيبها بالغثيان.
رفعت رأسها قليلا لتشاهد هذه المساحات الواسعه بين المباني لكي تشعر بالخصوصية كما يقول الإعلان،فوجدت عينها تقتحم غرفة جارتهم التي زينت الشرفة بملابس زوجها التحتية، فما كان منها إلا أن أشاحت بوجهها وابتسمت إبتسامة بلهاء استيقظت أمها من النوم كي تقوم بتحضير السحور.
 قامت بفتح الثلاجة عبثا ثم أغلقتها  سألتها عيناها دونما أي حديث:  ماذا سيأكل إخوتك على السحور؟ لم تستطيع أن تجيبها.
والعجز قد أصابها في مقتل فهي عاطلة عن العمل منذ عدة أشهر رغم محاولاتها الحثيثة في البحث عن أي عمل حتى أنها لجأت للعمل في البيوت حتى لا يموت إخوتها جوعا، ورغم أنها رضيت بالهم  فإن الهم لم يكن على الأرجح راضيا بها.
حيث قام أحدهم بالتحرش بها وعندما رفضت وصرخت بأعلى صوتها قاموا باتهامها بالسرقة،لم تستطع في تلك اللحظة أن تجيب على عيني أمها وهما تتساءلان سوى أنها تركتها وذهبت للنوم وفي الصباح دخلت أمها الغرفة فصدمت من هول ما رأت. ضع أنت النهاية التي تراها مناسبة.

في الحقيقة كنت أود أن يحوي هذا المقال قليلا من المزاح حتى نكسر وقع الصدمة من واقع أليم يعيشه هذا الشعب
لكنني حاولت قدر المستطاع ولم أستطع أن اقوم بذلك. تلك الكوميديا السوداء التي نعيشها كل يوم. هذا الشعب الذي يعاني منذ سنوات إلى متى سيظل في معاناته؟ بالطبع هذا الشعب ليس مسؤولية صاحب الإعلان

أتفقنا مع مالك الشركة أو اختلفنا  معه-لكن ما هذه الرسائل التي يحويها الإعلان؟ نحن لا نتحدث هنا عن ساكني مدينتي،فهم أناس مثلنا جميعا،يمارسون حياتهم الطبيعية  ويعافرون في الحياة مثل كل المصريين.
أتحدث هنا عن اللغة التي يصدرها لنا هذا الإعلان ما هذه العنصرية والطبقية لماذا  تتحدثون إلى الناس وكأنكم تتحدثون إلى بلد أخر وشعب أخر أو كأنكم من طينة أخرى أو كوكب آخر.
قرأت ذات مرة أن أي مبدع كي يبدع حقا يجب أن ينزل إلى الشارع ويتزاحم مع الناس في المواصلات، يحتك بهم، يجلس معهم، يشاركهم يومهم ومعاناتهم، فضلا عن معاناته هو شخصيا.

أية عنصرية يصدرها إعلانك عندما تروج لفكرة أن “الناس هنا شبه بعض” الغولف هنا عالمي !كم شخصا في مصر يستطيع لعب الغولف، بل كم شخصا يعرف من الأصل الأمان والخصوصية!

كل ذلك يضعه في حالة فريدة مع الناس كي يبدع ويوصل رسالته ولا يشعر الناس أنه يتحدث من برجه العاجي مع الفارق في المقارنة بين المستثمر والمبدع إلا أنهما يجمعهما صفة مهمة وهي “الواقعية”.
أي واقع تتحدث عنه وأنت تصور مدينتك على انها جنة الله فى أرضه وتتناسى تماما أن هناك فقير فى بلادك لا يجد قوت يومه، وهناك طبقة متوسطة تكاد تتلاشى.
أعمل أن الإعلان موجه لفئة معينة من الناس لكنك نسيت أن هذا الجهاز أصبح في كل بيت ويشاهدك الفقير قبل الغني.  
أية عنصرية يصدرها إعلانك عندما تروج لفكرة أن “الناس هنا شبه بعض” الغولف هنا عالمي !كم شخصا في مصر يستطيع لعب الجولف،بل كم شخصا يعرفيمن الأصل الأمان والخصوصية!
أنا لا ألومك في المقام الاول بل ألوم الحكومة المسؤولة عن هذا الشعب عن أمانهم وأمنهم، وعن المحافظة على كرامتهم.
 تلك الحياة التي تظهر أنها حياة مثالية، ولا مثيل لها في مصر، ولا خارجها.
هي بالفعل الحياة التي يحياها أي مواطن أخر في بلاد كثيرة وهي من أبسط حقوق المواطن دعنا من الحدائق والتعليم المميز، لكن هل صار الأمان من الرفاهيات؟ هل صار شيئا يستدعي الإعلان عنه وكأنه شيء نادر الوجود لماذا ؟
لأنه لم يعد متوفرا فلذلك صار عملة نادرة يجب الترويج لها ودفع آلاف الجنيهات للحصول عليها
أقول قولي هذا ولا عزاء للفقراء.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها