الاستهتار

بين السذاجة والإستهتار مساحة مشتركة سقط فيها عقلي وأنا أشاهد وزير الري المصري الدكتور محمد عبدالعاطي، وهو يتحدث عن مفاوضات سد النهضة التي دارت لمدة ست سنوات بين مصر وأثيوبيا ٠

بين السذاجة والإستهتار مساحة مشتركة سقط فيها عقلي وأنا أشاهد وزير الري المصري الدكتور محمد عبدالعاطي، في حواره مع الإعلامي عمرو أديب في برنامج الحكاية يوم الاثنين 9/3/2020 وهو يحدثه عن مفاوضات سد النهضة التي دارت لمدة ست سنوات بين مصر وأثيوبيا والسودان، وإتفاقية المبادئ التي وقعها السيسي في 23/3/2015 وأضاع بها حق مصر التاريخي والقانوني في مياه النيل . 

أجاب الوزير على أسئلة كثيرة غير التي سألها مقدم البرنامج وأهمها كيف تضيع حقوق الشعوب والأمم إذا قبلت قيادتها أن تتفاوض عليها رغم تحصين الأجداد لهذه الحقوق بمواثيق يصل تاريخها إلي المائة وخمسين عاما.

إن القبول بالتفاوض على حق موثق تحميه القوانين والمؤسسات الدولية هو هزل كبير وتهاون مفرط تختفي وراءه إحتمالات مشينه، ظهر مستوي الوزير الذى يقود المفاوضات علي أخطر قضايا الشعب المصري وهي مياة النيل التي أحسن القدماء في وصفها (مصر هبة النيل) وتيقن المصريون علي طول الزمن أنها حقهم في الحياة وأنهم علي مدي تاريخهم الطويل واختلاف عقائدهم ومواهبهم وحظوظهم في الحياة شربوا منه وعملوا عليه وبه ومنه، وانتظروا علي ضفافه عوائد الخير والجمال جيلا بعد جيل. 

النيل ومياهه للمصريين، كيانهم وهويتهم، إنه التاريخ العبق العريق، والجغرافيا المعطاءه الفواحه، عليه وبه نشأووا وأنشأوا وتفردوا،.. وا مصيبتاه هذا الرجل وبهذه السطحية وزير؟!.. ومفاوض ؟!.. وعن حقنا في مياة النيل ؟! 

ورغم أن المحاورأحد رموز إعلاميي السلطة إلا أنه عجز عن الأخذ بيد الوزير خارج حواره السطحي وهو يضع الهزل الذي فعله السيسي موضع الجد الذي جاء من أجله رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد في زيارته لمصر حين جعله يردد قسم لا يعرف معناه ولا مبناه، فكيف يقسم بالعربية وهو ولا يعرف اللغة العريبة، ولكنه يجاري السيسي وهو يمعن في الإستخفاف بالشعب المصري وإهانته وقمعه .

الوزير، عبد العاطي، الذي نتحدث عنه يقوم علي رأس أقدم وزارة في مصر والعالم العربي (وزارة الري) التي أنشئت سنة 1836 في عهد محمد علي باشا، وقادها عدد من كبار العقول المصرية، السلطان حسين كامل باشا، والامير محمد توفيق باشا، وزكي مبارك باشا، وكثيرون علي طول تاريخها. ذلك أن الحفاظ علي النيل وإدارة موارده المائية كانت علي رأس إهتمامات حكام البلاد. 

فتوزيع المياه للجميع، وهو واجب لا يخضع للهوى السياسي ولا للميل الطائفي، لكن الماء للجميع لتكون مصر العظيمة في تاريخها التي ظلت لفترات زمنية طويلة سلة غذاء المنطقة، وقاعدة لزراعة أحسن المحاصيل الزراعية في العالم، قطنها وقمحها وأرزها وقصبها. 

تجلي ذلك في بناء السد العالي الذى كان إنجازه مدرسة واسعة للمياه والري، تربى فيها مئات المهندسين والخبراء، وأفادوا الكثير من دول العالم وهيئاته الدولية، مياه النيل التي جعلت مصرمجتمعا حضاريا راقيا، يتشابك مع إنتماءاته العربية والاسلامية وتواصله الافريقي. مصر التي إحتضنت فعلمت وألهمت ودعمت نسائم التحرر والاستقلال، مصر التي دعت إلى إنشاء المنظمة الافريقية ورعتها وأصرت أن تكون في عاصمة أثيوبيا توزيعا للأوزان وتعظيما للأدوار. 

طمس عمرو أديب والوزير عبدالعاطي تاريخ مصر ودورها ورسالتها في أفريقيا، في هذه الحلقة البائسة بدا الوزير تائها في حواره غير محدد الرسالة والهدف، وألقم مشاهديه أحجارا ملتهبة وهم القلقون على مستقبل حصتهم من مياه النيل، والغد الملفوف بظلام العجز والانكسار، فبدا ولا فريق معه ولا خطة لديه ولا بدائل عنده. 

سكت عمرو أديب عن طرح كثير من القضايا التي هرب إعلامنا منها ست سنوات وعجز عبد العاطي عن أن يفتح لنفسه بابا لشهادة كانت تهم الشعب المصري كله.

تُرى من الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من عجز؟ لقد أكد الوزير أن إعلام النظام والحكومة مسؤلان بصورة مباشرة عما وصلنا إليه. 

من بين ما قال الوزير عبد العاطي ، وهو يحدث عن إضاعة الإثيوبيين للوقت وبناء السد يعلو، أنهم في أحد المرات مكثوا ثلاثة أيام لم يستطيعوا فيها الإتفاق علي جدول الأعمال ثم انتهي اللقاء الذي يعقد عادة كل ثلاثة أشهر تقريبا. فالوزير يعتبرها إضاعة للوقت، أما الإثيوبيون فيرونها استثمارا للفرصة مع وزير فاقد للرؤية لكي يرفعوا بناء سدهم ويحققوا حلمهم. الإثيوبيون يستثمرون في الوزير الضعيف الامكانيات، المحدود القدرات، في إنجاز مشروعهم القومي العملاق وهكذا يفعل الأذكياء. 

ألا يعلم الوزير ومحدثه أن تضييع الأوقات في هذه المهمة هو تدمير لحياة شعب مصر الذي يعتمد علي نهر النيل في شربه وزراعته وصناعته ونقله وسياحته وطاقته الكهربائية وثروته الحيوانية ونصف ثروته السمكية؟!.

إن الوزير بهذا الاهمال الجسيم أفقدنا صفحة غالية من ميراث أجدادنا ويقظتهم لحماية حياة من يأتي بعدهم، ويدفع بملايين المصريين مستقبلا إلى هجرة عشوائية في بلاد بعيدة بحثا عن فرصة الحياة التي ضاعت بعبث هذا الوزير ورفاقه. نعم، سبق هذا الوزير زميله الدكتور حسام المغازي، من 16/6/2014 الي 22/3/2016، وهو مسؤل معه (سنفرد له مقالا) ولكن الدكتور محمد عبدالعاطي حمل المسؤلية بعده والمفروض أنه جاء ببرنامج جديد يعالج قصور من سبقه. 

واذا كان عمرو اديب والوزير قد سكت عن الكلام المفيد فإننا لابد ان نسأل: لماذا تخليتم عن أمان سد النهضة وتقارير الخبراء تؤكد عدم توفر هذا الأمان، وثبت للجميع في منتصف 2018 أن هناك أخطاء شديدة في تصميم وتنفيذ بناء السد، وصلت إلي قتل المدير الأثيوبي للمشروع وإيقاف العمل في المشروع لفترة طويلة وتغيير الشركات العاملة فيه لإصلاح الأخطاء؟. 

لماذا سكتم عندما خالفت أثيوبيا نصوص الوثيقة التي سارعتم بالتوقيع عليها وزيادة الطاقة المنتجة من السد ورفع مستوي البناء وحجز المزيد من المياه؟!. ولماذا تدفعون بمياه النيل إلي العاصمة الإدارية (مليون وخمسمائه الف متر مكعب يوميا) وتحرمون عشرات القرى والاحياء من مياه الشرب لفترات طويلة؟!. 

لماذا ألقيتم 12 مليار متر مكعب في البحرصيف 2019 وحرمتم الفلاحين من زراعة الأرز، بل وتحصلون منهم الغرامات؟! وقد استخدمت أثيوبيا ذلك في إضعاف حجتكم بالفقر المائي، وقالت إنه الفقر في ادارة موارد المياه التي لا تعرفون قدرها؟!.. وأخيرا وليس آخرا، وقد عمل الوزير في اثيوبيا أكثر من خمس سنوات رئيسا لقطاع مشروعات البنك الاهلي المصري قبل انتقاله لوزارة الري، فهل اضافت هذه الخبرة شيء للفريق المفاوض ام ضيعت الفرصة علي مصر وشعبها؟! 

لقد انتظرنا هذا اللقاء منذ سنوات لأننا كنا نبحث عن الإطمئنان على المياه في حينه لأنها تعني لنا الحياة، وها هو الوزير المسؤل يبدد أملنا وهو ما كنا نخشاه، ويدفعنا إلى المجهول بعد أن ضيع الوقت المناسب للإخبار والإنذار، ولا شفيع له ولا لرئيسه الذين دفعوا بنا الي مجهول لا يعلمه إلا الله…

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها