موسم الهجرة إلى الأرياف

حملة نظافة في شوارع تونس

أعرف ومن خلال التجربة أنّ المدن الصاخبة تصبح شديدة الهشاشة عند الأزمات، بينما تنعم الأرياف البعيدة بنمط عيش هادئ، مع اكتفاء ذاتيّ في ما يخصّ التزوّد بالموادّ الغذائيّة.

لا يوجد أفضل من الانتقال للعيش في جزيرة نائية، بدل أن تعزل نفسك في شقّة ضيقة معلّقة بين السماء والأرض في مدن كانت تضجّ بالحياة، فصارت محاصرة بالمرض والخوف. لمعت تلك الفكرة في رأسي، وأنا أتابع الأخبار المربكة عن انتشار الفيروس المستجدّ بنسق متسارع حتّى وصل إلى مشارق الأرض ومغاربها.

كنت أعرف ومن خلال التجربة أنّ المدن الصاخبة تصبح شديدة الهشاشة عند الأزمات، بينما تنعم الأرياف البعيدة بنمط عيش هادئ، مع اكتفاء ذاتيّ في ما يخصّ التزوّد بالموادّ الغذائيّة بسبب ضعف الطلب عليها وغياب اللهفة التي تسبّبها الأزمات في المدن المزدحمة بسكّانها ولصوصها وكلابها،”فالمدينة هي الطعام المفضّل للكلاب”، كما قرأت في قصّة قديمة.

مازلت أذكر الأيّام الأولى للثورة التونسيّة، عندما سقط النظام فجأة، فانسحبت قوّات الشرطة بعد أن أُحرقت مقرّاتُها وعرباتُها، وهوجمت مراكز التسوّق الكبرى ونُهبت في ساعات قليلة…

فلمّا ذهبتُ إلى المخبز، وجدتُ الطابور طويلا، وأنا لا أحبّ الطوابير، فامتعضتُ ووقفتُ مع الواقفين المتأفّفين لمدّة ساعة ونصف، وعاينتُ ضيق الناس وتبرّمهم، وصراخهم وخصامهم، وطال الانتظار حتّى رفعتُ الرايةَ البيضاء، وعدت إلى البيت من دون الرغيف الذي ينتظره الصغار..

انهيار النظم المعيشيّة في المدن الكبرى أسرع بكثير منه في القرى البعيدة، حيث مازال الناس يخبزون خبزهم، وينتجون بيضهم وألبانهم وخضارهم وغلالهم في حدائقهم

وفي الساعات التالية، انتشرت على منصّات التواصل الاجتماعي إشاعات كثيرة، أشدّها وطأة أنّ أتباع النظام القديم سمّموا مياه الشرب، فخاف الناس وتهافتوا على المحلاّت الصغيرة لشراء ما يجدونه من المياه المعدنيّة. لكنْ هيهات، كانت البضاعة قد نفدت، كما نفد الحليب قبل أيّام، واضطرب التزويد بكلّ ما يحتاجه الناس من موادّ غذائيّة أساسيّة… وهكذا صارت العاصمة في ظرف وجيز مكانا مخيفا ينطبق عليه وصف الشاعر البلجيكيّ “فرانسيس دانمارك” إذ يقول: “في المدينة لا يوجد أفق، ولا باب، ولا مخرج!”

لقد سمحت لي تلك التجربة بالمقارنة بين العيش في مدينة كبرى يقطنها مليونا ساكن، والعيش في قرية صغيرة مع ألف ينقصون أو يزيدون قليلا، ولاحظت على ضوئها أنّ انهيار النظم المعيشيّة في المدن الكبرى أسرع بكثير منه في القرى البعيدة، حيث مازال الناس يخبزون خبزهم، وينتجون بيضهم وألبانهم وخضارهم وغلالهم في حدائقهم وحقولهم، والمنتج يبيع للمستهلك، والبضاعة تصلك إلى البيت دون عناء.

وهكذا، قرّرت على عجل الخروج من العاصمة والتوجّه مباشرة إلى جزيرة قرقنة، مسقط رأسي ومقصدي في عطلات الشتاء والصيف، جزيرة معزولة بطبعها بسبب ظلم النظام الذي أعاق نموّها على امتداد عقود…

كانت المحطّة البحريّة عندما وصلنا شبه فارغة، وهو أمر مطمئن في ظلّ الخوف من عواقب الازدحام. وبعد ساعة من الإبحار وصلنا إلى وجهتنا واستقبلتنا أشجار النخيل على جانبي الطريق.. هطلت هنا أمطار غزيرة فاخضرّت الأرض وازدانت بألوان الربيع…

لا خوف هنا ولا قلق، ومع كلّ غروب شمس، يرتفع الأذان في المسجد القريب، فيدخل الأولاد الصغار بيوتهم بعد أن لعبوا وضجّوا في البطحاء أمام أنظار آبائهم الواقفين خلف الشبابيك..

لم يدخل  فيروس كورونا الجزيرة ولم يقلق سكينتها، ولكنّ السكّان ملتزمون بقواعد التباعد الاجتماعيّ دون أن يمنعهم ذلك من الخروج يوميّا لقضاء شؤونهم أو للنزهة على الشواطئ وفي حقول الزيتون والتين والعنب.

في اليوم التالي، قمتُ بجولة في ضيعة “الحمادة” بمنطقة الرملة، وذلك المكان صيدليّة طبيعيّة تنبت فيه أعشاب عطريّة متنوّعة، حتّى أنّك تستمتع بعبق طيوبها التي تنبعث منها نتيجة المشي عليها…

وجدت الشيح في “الحمادة”، فقطفت حزمة منه، ووضعته ليجفّ تحت أشعة الشمس… سيكون شايا مفيدا يقي ويشفي ويقوّي المناعة كما ورد في صفحات طبيّة محكّمة… والطريف، أنّي قرأت لاحقا خبرا عن تجارب سريريّة واعدة لعلاج مرضى “الكورونا” بنبتة الشيح.

لا خوف هنا ولا قلق، ومع كلّ غروب شمس، يرتفع الأذان في المسجد القريب، فيدخل الأولاد الصغار بيوتهم بعد أن لعبوا وضجّوا في البطحاء أمام أنظار آبائهم الواقفين خلف الشبابيك..

تذكّرت فجأة طفولتي هناك في تلك البطحاء. كانت سعادة ذلك الطفل الذي يكتب هذه السطور الآن أكبر من أن تصفها الكلمات. 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها