المازني الذي روى الأدب العربي بالماء والطمي معا

 

لعلي أبدأ بمقدمة طريفة وكاشفة بعض الشيء عن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (1890 ـ 1949) هذا الكاتب الرائد: الصحفي، القاص، الروائي، الناقد، الشاعر، المترجم. فعقب تخرجنا في الطب روّج أحد زملائي العباقرة تصورا جميلا كنت أرجو أن أكون علي مستواه وهو أنني اشتريت جهاز كمبيوتر كي تكتمل المنظومة  التي لا أعتمد فيها علي أحد، فأقرأ النص من الإنجليزية ثم أترجمه في عقلي ثم أكتب الترجمة علي الكمبيوتر مباشرة ، ولم أكن أعجب لمثل هذا التفكير المستشرف لآفاق الحياة والموظف لإمكاناتها في الخيال علي هذا النحو حتى  وإن كان لي (أو إن لم يكن) نصيب كبير مما قاله، وتمر السنون فأقرأ أن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كان هو ذلك الشخص المنجز الذي تمنيت أن أكونه (علي نحو ما صوره صديقي) وأنه كان كذلك في زمن مبكر جدا.. وكأنما كان زميل يصف بحس نادر، ولفظ جميل ما كان عليه الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وإن كان يتمني لي بعضا من هذا الامتياز.
والحق أنه لم يصل أحد من اللاحقين إلي مستوي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في إلمامه بالإنجليزية والعربية معاً. وقد كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني متفوقًا إلي أبعد الحدود في صياغة المعاني التي عبرت عنها نصوص أجنبية في لغة عربية أصيلة حتى  إنك لا تكاد تري في النص المعرب ما يدل علي أن النص قد كتب من قبل بالإنجليزية. 
وفي المقابل فإن من الطريف أن بعض أسماء كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تبدو وكأنها كانت أسماء أجنبية قبل أن تكون أسماء لكتب عربية أصيلة .. انظر علي سبيل المثال إلي اسم كتابه “إبراهيم الكاتب” : أليس هذا هو أدق اسم في الإنجليزية لكتاب مؤلف عن كاتب نجم متميز اسمه إبراهيم !! أما في اللغة العربية فإن الاسم يدل علي المعني ذاته،  وعلي أكثر من معنى آخر حتى  إنه قد اختلط مؤخراً علي أكثر من باحث أدبي كانوا يتولون فرز وترتيب مجوعة مداخل موسوعية عن الأعمال الأدبية والأدباء فظنوا – ولهم عذر كبير – أن هذا المدخل يخص أديباً يحمل اسم إبراهيم الكاتب !! على نحو ما أن هناك أديبًا عربيا قديما اسمه عبد الحميد الكاتب وعلى نحو ما أن هناك أديبًا عربيا معاصرا سمى نفسه عبد الحميد الكاتب.
أحببت إبراهيم عبد القادر الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ، و كان حبي له يتضاعف مع مرور السنوات ، حتى  إذا ما انتخبت عضواً في مجمع اللغة العربية و ورثت مقعدي عن خمسة أسلاف عظماء كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ثالثهم حرصت علي أن أضمن هذا المعني في كلمتي في حفل استقبالي مثنياً علي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ورفعة قدره ببعض ما يستحق من الثناء العطر الجميل الذي يشرف من يثني علي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ويرفع قدره في كل آن.

المازني لم يكن يحب أن يكون شيخ طريقة 

إذا ما أردنا أن نسأل أنفسنا عما منع الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أن ينال أكثر مما نال أو بعبارة أدق أن ينال بعض ما يستحقه بالطبع فلربما كان من الأوجه أن نصيغ السؤال علي هيئة: ماذا كان ينقص الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ليكون شيخ طريقة؟.
والجواب أن كل ما كان ينقصه لبلوغ هذه المكانة لم يكن في حقيقته إلا مزايا وسجايا فاضلة.
كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يحب الحقيقة، ولهذا فإنه لم يكن من أنصار أن يحصر نفسه في حزب معين، ولهذا فقد فاته ما يكسبه المتحزبون.
كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني متواضعاً لا يحب الشموخ ولا التفاخر ولا الغرور ولا ادعاء الغرور ، ولهذا فقد فاته ما يكسبه القادرون علي تصوير أنفسهم مستحقين لما هو أكثر مما نالوه.
كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني إنسانا ودودا ، ولهذا فإنه لم يحصل علي ما حصل عليه الذين عرفوا بالشراسة أو القوة في محاربة الخصوم وفي الدفاع عن الأتباع.
كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني محبًا للعمل الحقيقي ، ولهذا فقد فاته ما يحصل عليه المحبون للرياسة والزعامة.
كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مخلصاً في عمله بأكثر من إخلاصه لاسمه ، ولهذا فقد فاته ما يحققه الذين يعملون لاسمهم قبل أن يعملوا للعمل نفسه … وهكذا.

زهده في المكانة التي كان يستحقها 

كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مستحقا لأكثر مما وصل إليه من مجد،  لكنه كان زاهداً في أن يكون شيخ طريقة، وكان اسمه أكبر مما منحه هو له من اهتمام لكنه كان يؤمن بوظيفته الأبوية والأسرية وأن لهذه الوظيفة من الحقوق عليه ما لا يقل عن حق نفسه علي نفسه، كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني إنساناً راقياً أليفًا ألوفاً قادراً علي التعاون مع الجميع، يعرف الكثيرون أنه اشترك مع الأستاذين عباس العقاد وعبد الرحمن شكري في تأليف كتاب “الديوان” ووضع نظرية جدية للكتابة الشعرية في العربية لكن ربما لا يعرف كثيرون أنه اشترك أيضًا مع الدكتور محمد حسين هيكل باشا في تأليف كتاب سياسي وربما لا يعرف الكثيرون أيضًا أنه اشترك مع علي أمين ومصطفي أمين في صياغة توجهات مؤسسة أخبار اليوم تجاه البلاد العربية من خلال ما يقترب مما نسميه الآن الطبعة العربية من الجريدة.
و فيما بعد كتابتي للفقرة السابقة بما لا يقل عن عشر سنوات وجدت في نصوص الدكتور زكي مبارك نصا يدلنا على القدرة اللا نهائية التي رزقها الأستاذ المازني في التعاون مع النقيضين بل مع الخصمين بسلاسة لا نظير لها،  وقد ذكر الدكتور زكي مبارك هذا المعنى ضمن حديث طويل نشره ١٩٤١ في حياة الأستاذ المازني و سوف ننقل عنه هنا نظرا لما يحفل به من نقد حميمي وحماسي و ذي قيمة منهجية لا يستطيع الوصول إلى مستواها أحد.

عمادة الساخرين 

عرف الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بنزعة راقية إلي السخرية اللاذعة، وقد أجاد الأستاذ العقاد التعبير عن حقيقة السخرية في شخصية صديقه الأستاذ المازني مفسرا هذا بالحقيقة القائلة بأن الإنسان العظيم لا يكون عظيما حقا إلا إذا سخر من نفسه، وهكذا فعل الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بنفسه وبأقرب المقربين إليه.
لكن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في حقيقته لم يكن كما صور نفسه تماما وانما كان ، علي حسب ما يرويه معاصروه، أقرب للانطواء والانزواء منه إلي الانبساط والاختلاط بالناس، وكان حريصا علي هذا البعد عن الناس، ورأيي أن هذا كان راجعا إلي طبيعة نفسيته قبل أن يكون راجعا إلى طبيعة شخصيته التي خلقه الله بها، وإن كان كثير من الأدباء والنقاد و مؤرخي الأدب يظنون لذلك علاقة بقصر قامته، وضآلة حجمه، وما أصابه من عرج واضح في إحدى ساقيه نتيجة حادث تعرض له في بدايات شبابه، وقد كان بالإضافة إلي انطوائيته يتمتع بقدر عال من الإنسانية والعطف والرأفة والحنو علي الضعفاء.

طبيعة ريادة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني 

لاشك في ريادة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الفاعلة والحافزة والمحفزة لكثير من الفنون الأدبية التي تطعم  بها أدبنا العربي، وقد أدي دوره الكبير في هذه الريادة دون ضجيج يتناسب مع ما أنجزه، وقد تصرف في ريادته تصرف المؤمن بالتراث المشترك للإنسانية، الحريص علي الإفادة من جهد مَنْ سبقه أيا ما كان، وأينما كان، ولهذا فإنه يمكنني القول بأنه حين نقل التقنيات الأدبية الكبرى في عصره إلي اللغة العربية ، فإنه نقلها علي سبيل التطعيم لا علي سبيل التقليد المطلق ولا علي سبيل المعارضة… وهكذا فإنه، قبل غيره، كان بمثابة الرائد الذي مهد الأذهان للأدب الجديد وتقنياته الجديدة دون أن ينال حظه (أو وزره) في أن يُسمي موباسان مصر أو برنارد شو مصر أو موليير مصر أو ديكنز أو تشيكوف مصر … مع أن فيه الكثير من كل هؤلاء !
والحق أن اثر الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في الأدب العربي كان أكثر ما يكون شبها بنهر النيل في تغذيته لتربة وادينا الطيبة بالماء والطمي معا من دون تمييز ولا حساب ، وذلك على حين كان أثر أقرانه مقتصرا على الري بالماء بعد معالجته بأساليبهم كما كان يفعل الأستاذ العقاد ، أو على حين كان أثرهم أقرب إلى أثر النافذة التي  أطل منها الأدب العربي على نحو ما فعل الدكتور طه حسين و الأستاذ عبد الرحمن شكري ، أما المازني فإنه كان يترجم وهو يكتب ، و يكتب وهو يترجم ، على نحو ما كان يكتب حين يكتب ، و يترجم حين يترجم ، و لم يكن يقدم الأعلام في قصصه المأخوذة عن الغرب بأسمائها في أدبها وإنما كان يسميها و كأنها ولدت في المنوفية حيث موطن أسرته أو في القاهرة حيث عاش .
وحين اختار الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني هذا الطريق الهادر الذي سلكه ،  فإنه كان واعيًا لما كان يفعله، وكان واعيًا لما كان يختاره عن إخلاص، ولما كان يتركه من مجد متاح  كان قريبا جدا من أصابعه ، لكن نفسيته الشفيفة النقية الواثقة لم تكن لتسمح له بأن يترك هذه الطريق إلي طرق أخري تمكن له ريادة ينادي بها بديلاً من ريادة حقيقية كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يمارسها في كل حين كما يمارس طقوس حياته.
ومع كل هذا الذي ربما يحسب على أنه نوع من أنواع التفريط الذي فرطه الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في حق نفسه فقد كان التاريخ الأدبي كفيلا له بحفظ حقه.
ولعل عضويته المستحقة بالانتخاب في المجمع اللغوي على سبيل المثال كانت أحد الأمثلة الدالة بوضوح على مكانته بين أعلام جيله .

التقدير الذي يحظى به 

توفي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ولما يبلغ الستين وترك أسرة بلا مورد ثابت ، ثم أصبح الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف في وزارة الوفد ١٩٥٠ و ذهب للنحاس باشا زعيم الأمة يقدم رجلا و يؤخر أخرى ليطلب معاشا استثنائيا لأسرة المازني ، الذي لم يكن من أنصار النحاس بل كان في تلك الفترة وعلى مدى سنوات أحد مهاجميه بالباطل ، ففوجئ الدكتور طه حسين بزعيم الأمة النحاس باشا يضاعف مبلغ المعاش الذي طلبه لأسرة هذا الأديب العظيم .
  ونحن نري أصداء تقدير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في كل ما يكتب عن أدبنا الحديث والمعاصر، كما نراه في كل ما يكتب عن هذا الرجل عندما يجيء ذكره، وعلى سبيل المثال فقد قال عنه الأستاذ عباس محمود العقاد يوم استقباله :
« لست أغلو ، ولا أحجم عن التحدي ، إذا قلت: إنني لا أعرف فيما عرفت من ترجمات النظم والنثر أديبًا واحدًا يفوق الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في الترجمة من لغة إلي لغة، ويملك هذه القدرة شعرًا كما يملكها نثرًا، ويجيد منها اللفظ كما يجيد منها المعني والنسق والطلاوة، وقد يغني التمثيل هنا عن الإفاضة في الدليل».
وقد وصفه الدكتور مهدي علام في كتاب «المجمعيين» بأنه أحد أعلام النهضة الأدبية الحديثة، وصاحب القلم الساخر الذي كتب المقالة الوصفية، والقصيدة، والقصة، وترجم الشعر والنثر، وعلق، وعرض ونقد وملأ ذاكرة الجيل الحاضر بما أبدع في الصحف والمجلات والكتب. وكان أديبًا مرهف الحس، لاذع السخرية، في أسلوب سلس شائق.

نشأته و تكوينه الثقافي 

ولد الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بالقاهرة في 19 أغسطس سنة 1890، ويعود أصل أسرته إلي كوم مازن في المنوفية ،  وتلقي تعليما مدنيا متميزا دفع به إليه والده الذي كان محاميا، ونال شهادة الدراسة الثانوية سنة 1905، ودخل مدرسة الطب، وفي حجرة التشريح أحس بالغثيان وكاد يغمي عليه، فكان هذا آخر عهده بعلم الطب. وآثر بعد ذلك أن يلتحق بالحقوق لأنها كانت من أشهر المدارس العالية في ذلك الحين، ومع أن والده كان محاميا فإن مصروفات تلك المدرسة كانت قد ارتفعت في ذلك العام بما لا يتناسب مع قدرته المالية، فدخل مجبرًا مدرسة المعلمين العليا (المعلمين الخديوية). ولم يكن فيها تخصص ولكنه خصص نفسه علي حد ما قيل، فدرس الآداب ودرّسها، وبقي كذلك حتى  استقال من التعليم كله.
بدأ الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الاتصال بالصحافة وهو طالب في مدرسة المعلمين، ونشر مقالاته في جريدة الدستور لصاحبها الأستاذ محمد فريد وجدي، وتعرف فيها علي الأستاذ عباس العقاد الذي كان مسئولا عن تحرير الدستور.
 ثم اشترك الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بعد ذلك في تحرير البيان، والأخبار لصاحبها الأستاذ امين الرافعي .

حياته مع الشعر 

بدأت شهرة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الأدبية بالشعر لا بالنثر الفني ، وقد أصدر الجزء الأول من ديوانه مبكرا جدا  (1913)، وأتبعه بالجزء الثاني (1916)، وظهر في شعره تأثر واضح بما قد يوصف بأنه منابعه الطبيعية من الأدب العربي القديم، وبالمنابع الخاصة التي لم يسبق إليها بالدرجة ذاتها أقصد: مطالعاته العميقة في الأدب الإنجليزي.
وقد تعرض الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مبكرا لاتهامات واضحة بأنه أخذ المعاني التي سبق إليها وأعاد ترجمتها أو عبر عنها بأسلوبه الأخاذ.
ولاتزال القيمة الفنية في شعر الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في حاجة إلي دراسة تستقصي ملامح التميز في هذا الشعر الذي ظهر في عصر تعددت فيه المذاهب والاتجاهات، ومع أن الذاكرة “الجمعية” العربية لا تحتفظ بكثير من شعر الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ، فإن له شعرا جيدا كثيرا، ولاشك في أنه صاحب الفضل الأول في تعريف الأدب العربي بالشعراء الإنجليز بيرون، وشلي، وكيتسي.
وقد أجاد الدكتور زكي مبارك تصوير ما أسماه بجناية المازني على نفسه الشاعرة فقال: 
“….  أريد أن أهوى بيدي على رأس المازني فأحطمه بلا ترفق، عقاباً على ما صنع بنفسه بلا ترفق!؟ كان المازني من أكابر الشعراء، وكان يستطيع أن يمد الشعر بقوة وذوقية تصل ما انقطع من لوامع هذا الفن الجميل. ولكن المازني الذي انشغل بالكتابة في جميع الأوقات ولجميع الأحزاب لم يعد يجد الفرصة للغناء، ولا بد للشعر من غناء. والغناء يوجب الخلوة إلى النفس من حين إلى حين؛ ومتى يخلو إلى نفسه من يعاني ضجيج المجتمع السياسي في الصباح والمساء، ومن عود نفسه الأنس بالقيل والقال في الكبائر والصغائر من شؤون هذا المجتمع الصخاب؟ وهنا يظهر انخداع المازني أو خداعه، فهو لا يقول إنه مشغول بالكلام عن الغناء، وإنما يكابر فيزعم أنه لم يبق للشعر في الدنيا مكان، وأن الشعراء ليسوا إلا جماعة من الحمقى والمجانين! وحول هذه القضية ثارت الخصومة بيني وبينه على صفحات البلاغ حين ظهر ديواني في سنة 1934، وهي خصومة مست قلب المازني، وكان من المحتمل أن تكون لها عواقب سود، ولكن الرجل تراجع حين عرف أن غضبه لم يقم على أساس. وبعد أعوام حدثته بأني انصرفت عن الشعر فحملق في وجهي حملقة الغول وهو يصرخ: أنت تبت! أنت تبت! وكذلك يرى المازني أن الانصراف عن الشعر توبة، وكأنه يجهل أنه أساء إلى وطنه إساءة ستجعله من أهل النار يوم يقوم الحساب، فضياع شاعر مثل المازني ليس إلا نكبة وطنية. لا جزاء الله إلا بما هو له أهل!”

مواهبه في القص

 
يعتبر بعض مؤرخي الأدب «القص» بمثابة الميدان الأول الذي تجلت فيه عبقرية الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ، فهو صاحب ريادة في الرواية، وفي السير الذاتية، كما أنه متفوق إلي أبعد الحدود في القصة القصيرة، وفي أدب الرحلات.
أما أشهر رواياته فهي «إبراهيم الكاتب» (1931)، وقد ترجمت إلي اللغات الأخري، وهي بلا جدال أكثر رواياته اشتهارا أو نجاحا وقبولا، ويراها كثيرون من روايات السيرة الذاتية ولهم في ذلك كل الحق، وهي من هذه الناحية عمل فائق الروعة، ثم «ميدو وشركاه» (1943)، و”عودّ علي بدء” (1943)، و«ثلاثة رجال وامرأة» (1943)، و«إبراهيم الثاني» (1943).
وله من المجموعات القصصية «في الطريق» (1937)، و«ع الماشي» (1937)، ومن «النافذة»، وقد نشر الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كثيرا من القصص في مجلتي «الرواية» و«الهلال» و«أخبار اليوم» مما أظنه لايزال في حاجة إلي جمع وتحقيق.
وله في أدب الرحلات: «الكتاب الأبيض الإنجليزي».
وفي مجال المسرح ترك الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مسرحية واحدة هي «غريزة المرأة أو حكم الطاعة»، وقد اتهم بعض النقاد الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بسرقة هذه المسرحية من رواية ««الشاردة» للكاتب الإنجليزي جون جالزورثي (1867 ـ 1933).

جهده في المقال الصحفي 

أما جهد الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في المقالة الصحفية فهو جهد رائع وغير ملحوق، ومع  ريادته للقصة القصيرة والطويلة والشعر والترجمة والنقد فإن بعض النقاد يرون أن المقالة هي إبداع الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الأول، وقد كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في السياسة والأدب والشئون الاجتماعية والتربية والتعليم، وكانت مقالاته قطعا رائعة استوفت أرقي أساليب السرد القصصي، كما كانت حافلة بالطبع بتلك السخرية اللاذعة التي اشتهر بها في كل كتاباته، وهكذا كانت مقالاته في حد ذاتها متعة فنية تضيف إلي متعة موضوعاتها، وفنيتها، وقد أصدر عددا من الكتب التي جمع فيها بعضا من هذه المقالات، ومنها: «حصاد الهشيم» (1924)، و«قبض الريح» (1927)، و«صندوق الدنيا» (1929)، و«خيوط العنكبوت» (1935)، كما ترك عشرات المقالات المتناثرة في صفحات المجلات والصحف، والتي لم تجمع بعد في كتاب.

أسبقياته في النقد 

أما في مجال النقد والدراسات الأدبية فلعل الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أول كتاب العصر الحديث عناية بتخصيص كتب كاملة لنقد الشعراء وعرض وجهات نظره الشعرية، وقد كان الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ، شأنه شأن العقاد، رافضا للواقع الأدبي علي نحو ما تكرس او استقر تصويره  في ذلك الزمان، ولم يكن من أنصار الإقرار لشوقي أو المنفلوطي بالريادة والتفوق في الشعر والنثر، وقد ظهر هذا بوضوح في نقده العنيف لشوقي الذي اشترك فيه مع العقاد، ثم تمادي الرجلان فكررا النقد اللاذع نفسه مع زميلهما الثالث عبد الرحمن شكري، وكذلك كان منهج الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في النثر والنقد، فقد انتقد المنفلوطي في قصصه وكتاباته وأسلوبه، كما انتقد طه حسين بعنف، وتروي بعض المصادر أن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني عاد فانتقد نفسه فيما اندفعت إليه من نقد عنيف صريح، وقد ناظر الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني العقاد في الكتابة النقدية المبكرة فكتب أولا «الشعر غاية ووسائطـ» (1915)، ثم كتب «شعر حافظ» (1915)، وفي الديوان (1921) كتب عن شعر عبد الرحمن شكري، وله أيضا فصول أو مقالات طويلة عن شعر ابن الرومي ضمها كتابه «حصاد الهشيم» (1924)، وبعد عشرين عاما نشر كتابه عن «بشار بن برد» (1944).
وتشير بعض المصادر إلي أنه ترك مخطوطا بعنوان «فلسفة الشعر والنقد الأدبي».

مترجماته

أما مترجمات الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني فترتفع به إلي الذروة السامقة بين المترجمين العرب في العصر الحديث وكل العصور. وقد ترجم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني “رباعيات الخيام”، و “الآباء والأبناء” لتورجنيف، و “سانين” لأرتزيبا شف. ويقال إن “سانين” هذا كان من أقرب الشخصيات إلي نفسه.

فوزه بعضوية المجمع اللغوي 

نال الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بعض التكريم الذي يستحقه، وقد اختاره المجمع العلمي العربي (مجمع اللغة العربية بدمشق) عضوًا مراسلاً له  من قبل أن يختار  لعضوية مجمع اللغة العربية إذ لم تهيئ المناصب الحكومية أو العليا للمازني أن يكون واحداً من أفواج المختارين لعضوية مجمع اللغة العربية بالتعيين في أول عهده  (سواء في 1932 أو 1940 أو 1942 أو 1946)، لكن المجمعيين أنفسهم الذين جاءوا بالتعيين كانوا حريصين كل الحرص علي أن ينتخبوا الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني لهذه العضوية ،  بل على أن يكون أول أديب وكاتب يقع عليه الاختيار للمجمع بالانتخاب بادئا سلسلة من هؤلاء الكتاب الذين جاءوا بالانتخاب: أحمد حسن الزيات، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ومحمد توفيق دياب، وعزيز أباظة.. إلخ) ولم يسبقه الى نوال العضوية بالانتخاب الا ثلاثة متخصصون : الأساتذة الدكتور على توفيق شوشة والشيخ احمد إبراهيم (في ١٩٤٢) والدكتور عبد الحميد بدوي (في ١٩٤٥) و فاز مع في نفس الجلسة الشيخ على عبد الرازق.
 هكذا انتخب مجمع اللغة العربية بالقاهرة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني عضوًا عاملاً به في سنة 1947، في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ أحمد إبراهيم، و قد انتخب هو والأستاذ علي عبد الرازق في جلسة واحدة، في مكانين خلوا بوفاة الشيخ أحمد إبراهيم والدكتور علي إبراهيم، وتم الاتفاق علي أن يكون الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني خلفا للشيخ أحمد إبراهيم، وعلي هذا فإن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني ضمّن كلمة في استقباله في المجمع كلمة عن سلفه الشيخ أحمد إبراهيم ، لكن كتاب المجمعيين لايزال يذكر أنه انتخب ليشغل الكرسي الذي خلا بوفاة الدكتور علي إبراهيم، وهذا صواب من حيث ترتيب الفوز ، لكنه مخالف لما تم إقراره فيما يتعلق بالتعاقب على الكراسي .
وعلي الرغم من أن المدة التي قضاها الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة كانت قصيرة،  فإنه أسهم بنصيب كبير في أعماله، فاشترك في لجنتي الآداب ورسم الحروف، وألقي بعض الكلمات:
ـ كلمة عن الشعر، في الحفل العلني لإعلان نتيجة المسابقة الأدبية.
ـ كلمة في تأبين المرحوم الأستاذ أنطون الجُميل.
كما اختير ليمثل المجمع في الاحتفال بمرور  75 عاما علي المجمع البولوني للعلوم والآداب.
وكانت له اقتراحات وجيهة فيما يتعلق بطريقة اختيار الأعضاء العاملين بالمجمع:
ـ أن يقرر المجمع المواد التي يحتاج إليها في عمله.
ـ أن يُخَصَّص لكل مادة عددًا من الكراسي.
ـ إذا خلا كرسي روعي في الترشيح أن يكون المرشح من المتفوقين في المادة التي خلا كرسيها.
ـ أن يكون الترشيح مبنيا علي آثار المرشح وأعماله.

فهم المازني الأصيل للنحو وتطبيقه 

روى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني موقفه المنطقي من النحو وقواعده بطريقة ذكية وحصيفة صاغها على هيئة حوار له وهو طالب مع عميد مفتشي اللغة العربية الشيخ حمزة فتح الله ، في أحد امتحانات اللغة العربية  حين  كان الأستاذ المازني يؤدي الامتحان النهائي للتخرج (أو أحد امتحانات النقل في إحدى السنين ) في مدرسة المعلمين العليا وقد تضمنت هذه الرواية أن الشيخ عبد العزيز جاويش هو الذي انقذه من الشيخ حمزة فتح الله ، كانت لجنة الامتحان الشفوي في اللغة العربية برياسة الشيخ حمزة فتح الله  وكان من أعضائها الشيخ عبد العزيز جاويش والأستاذ عاطف بركات: 
” وأذكر أني وأنا في مدرسة المعلمين العليا كان الشيخ حمزة فتح الله هو الذي يتولى امتحاننا في اللغة العربية ، على الأقل في إحدى السنين ، وكان من أعضاء اللجنة التي هو رئيسها الشيخ عبد العزيز جاويش وفتح الله بركات بك وأستاذنا في المدرسة؛ وكنا ندخل على اللجنة واحداً واحداً كما هي العادة فأخبرني الذين سبقوني إلى أداء الامتحان أن الشيخ حمزة عليه رحمة الله يفتح كتاب النحو والصرف ويأمر الطالب أن يسمعه الباب الفلاني، وكانت هذه مبالغة ولكنا صدقناها، فأيقنت أني مخفق ووطنت نفسي على معركة. وجاء دوري فدخلت، فناولني مقدمة ابن خلدون وقال افتحها في أي موضع واقرأ، ففعلت، فأمرني أن أضع الكتاب وشرع يسألني عن كلمة “العدوان” ما فعلها الثلاثي ولماذا يقال اعتدينا  – بفتح الدال للماضي – واعتديا بكسرها للأمر. فلم أعرف لهذا جوابا، فقلت: هكذا نطق العرب وعنهم أخذنا. فألح في طلب الجواب المرضٍي فقلت : إن اللغة نشأت قبل القواعد. وأنا أنطق وأكتب وأقرأ كما كان العرب يفعلون من غير أن يعرفوا قاعدة أو حكما،  فساءه جوابي ونهرني وخشي الشيخ جاويش العاقبة فقال له: “يا مولانا. العصر وجب” فنهض الشيخ حمزة لصلاة العصر ، وتركني لزملائه ، فأسرعوا في امتحاني قبل أن يفرغ الشيخ ويعود.” 
سمات أدب المازني التي أجاد الدكتور زكي مبارك تصويرها 
كتب الدكتور زكي مبارك مقالا ممتازا في أعقاب صدور كتاب إبراهيم الكاتب استعرض فيه تاريخ الأستاذ المازني مع الادب والصحافة من واقع معايشته اللصيقة له على مدى فترات طويلة ، والمقال في حقيقته تحفة فنية مهما كان فيه من قفز على بعض الاحداث وانتقاء لبعض المواقف ، لكنه عمل أدبي ونقدي موحٍ بما لا يمكن لنا أن نفرط فيه وفي إثبات كثير من فقراته هاهنا : 
” الأستاذ إبراهيم عبر القادر المازني أحد أقطاب الأدب الحديث. ولكن شهرة المازني في مصر وفي سائر الأقطار العربية لا تعفينا من النص على خصائص ذاتية لم يعرفها القراء من قبل وإن كان المازني لم يترك مجالاً لمن يريد أن يتحدث عنه بإيجاز أو إطناب، فأشعاره ومقالاته تسجل ما فيه من محاسن وعيوب. وهنا يحتاج الكلام إلى تقييد، فالمازني مغرم بالسخرية من نفسه، وقد يتوهم من لا يفهم أنه لا يقول عن نفسه إلا الحق وذلك وهم فظيع، فهذا الرجل من أهل الجد الرزين، وله مبادئ أدبية وقومية يحرص عليها حرص الأبطال، وأقل ما يوصف به المازني أنه رجل شهم وهو من عناوين المروءة في هذه البلاد.
” ….. المازني لا يصلح أبداً لحياة الهدوء والاطمئنان. ولو أجلسناه على كرسي الوزارة لخلع نفسه بعد لحظات، ليقول في الوزارة ما يشاء، وليغمز الرسميين كما يريد. وقد اشتغل المازني بالتعليم في المدارس الأهلية، ولعله أنشأ لنفسه مدرسة لم تظفر بطول البقاء. ومن المؤكد عندي أن (الكاتب) هو الذي أضاع (المدرس)؛ 
” بدأ المازني حياته النثرية بالطريقة الجاحظية، وهي تقوم على أساس الازدواج، وقد وفى المازني لهذه الطريقة أصدق الوفاء في أمد يزيد على عشر سنين، وكان عهده في رحاب هذه الطريقة أجمل عهوده الأدبية. فقد كان نموذجاً للكاتب الفنان، وكان بناء الجملة على سنان قلمه غاية في المتانة والجمال. ثم جنى المازني على نفسه بالكتابة اليومية، ولكن كيف؟ يدخل الجريدة فيتحدث ويتحدث ثم يتحدث إلى أن يضيع الوقت وإلى أن تنفذ قواه، وفي آخر لحظة يكتب المقال المطلوب بأي أسلوب، وكذلك صار المازني يكتب كما يتحدث، وبين الكتابة والحديث مراحل طوال. ثم ماذا؟ ثم ابتدع المازني طريقة جديدة هي كتابة أكثر مقالاته وقت إنشائها بالكتاب[ يقصد الدكتور زكي مبارك:  الآلة الكاتبة ،  وكانت هذه محاولة مبكرة لتعريب اسم الآلة بكلمة واحدة بدلا من كلمتين لكنها وجدت تسمية غير عملية لاختلاطها مع الكتاب و الكُتاب محل التعليم و الكتاب جمع كاتب ] ، فينشئ المقال على أصوات: طق طق، طق!! هل فهمتم ما أريد؟ المازني اليوم لا يكتب كما نكتب بقلم ومداد وقرطاس، ليستطيع المحو والإثبات كما نستطيع، وإنما تدور أنامله على الكتاب بوحي من رأسه الموهوب؛ فيخرج المقال وهو كلام لا إنشاء. فمن هاله أن يرى بناء الجملة عند المازني الجديد يخالف بناء الجملة عند المازني القديم فليذكر هذا التاريخ من حياة هذا الفنان.
” ولكن. . . ولكن المواهب تلاحق أصحابها ولو فروا منها إلى شعاب الجبال، فالمازني أديب موهوب، وهو كتلة من العواطف والأحاسيس، ومواهب هذا الرجل لن تتركه بعافية، وسيظل المازني هو المازني، ولو انتقل من تسيطر مقالاته على الكتاب إلى تسطيرها على الهواء. ولعل لله حكمة فيما صار المازني إليه، فهو الشاهد على أن الفطرة أفضل من الفن، وهل الفن إلا الصدق في النقل عن الطبع؟
” المازني الجديد فنان بأسلوب جديد، وسيكون له مكان في تاريخ الأدب العربي، فسيقال حتما إنه عاون على حماية اللغة الفصيحة من عوادي الجمود. لقد بدأ للأستاذ محمود تيمور أن يؤلف بعض الأقاصيص باللغة العامية ليغزو قلوب الطبقات الشعبية، فهل وصل إلى ما يريد؟ إن كتابة المازني – وهي غاية في إيثار الفصيح – أسهل وأوضح من كتابة تيمور العامية، ولو ترك مصير اللغة إلى من يخطبون ود العوام لصارت إلى البلبلة ثم الفناء. والأستاذ محمود تيمور له يوم، وسنلقاه بعد قليل، فله فوق هذه المشرحة مكان.
قدرة المازني على العمل المتزامن في أكثر من اتجاه
ثم يروي الدكتور زكي مبارك عدة وقائع مثيرة يكشف بها عن قدرة الأستاذ المازني على العمل في أكثر من اتجاه:  
“عرفت المازني معرفة أدبية لا شخصية في أعوام الحرب الماضية، وكان قد أخرج كتاباً في نقد حافظ إبراهيم وكان نقد حافظ في تلك الأيام يعد من شواهد التفوق. ثم زاد اهتمامي به حين سمعت أن حافظ إبراهيم كانت له يد في إخراج المازني من وزارة المعارف ، وأنا هنا أحكي كلاماً فاضت به المجالس في ذلك العهد بغض النظر عما فيه من صحبة أو بطلان.
ثم جاءت فرصة رأيت فيها المازني وجهاً لوجه في سنة 1922 ولكن كيف؟ كان الأستاذ عبد القادر حمزة اشترك مع عبد اللطيف بك الصوفاني – رحمهما الله – في إخراج جريدة الأفكار بصورة تجمع بين مقاصد الوفد المصري ومبادئ الحزب الوطني، وكان عبد القادر ينظر إلي بارتياب لصلتي الوثيقة بالحزب الوطني، فكان يخفي عني أسماء المحررين الذين يساهمون في التحرير من بعيد، ومن هؤلاء كاتب تنشر له (الأفكار) سلسلة من المقالات الرائعة بعنوان “الإسناد المتداعية” فمن ذلك الكاتب؟ من ذلك الكاتب؟ ليتني أعرف! وفي ذات يوم دخلت على الأستاذ عبد القادر حمزة أبلغه ملاحظات الصوفاني بك على بعض ما في “الإسناد المتداعية” من آراء فابتسم وقال: اسأل الأستاذ! فنظرت فرأيت المازني في حال تستوجب الرثاء، فقد كان دامي العينين، وكان كيانه يشهد بما يعاني من إعياء، وكذلك عرفت أن إبراهيم المازني هو صاحب “الإسناد المتداعية” وبعد خمسة عشر عاما من ذلك التاريخ عرفت [عن] المازني خبراً يشبه هذا الخبر الغريب، وحياة هذا الرجل كلها غرائب.
كنا زميلين في تحرير جريدة البلاغ، ولم يكن بيننا ما يقع عادة بين الزملاء من التنافس المكبوت، فأسررت إليه مرة أن عندي موضوعاً أتهيب الكتابة فيه، لأنه قد يضايق فضيلة الشيخ المراغي، وهو إعلان الرسائل التي تنال بها العضوية في جماعة كبار العلماء، وبينت له أن من الواجب أن يكون حال تلك الرسائل شبيهاً بحال الرسائل التي تنال بها الدكتوراه من الجامعة المصرية، فهي تطبع وتنشر ليعرف الجمهور أن الجامعة لا تعطي الألقاب العلمية بدون استحقاق، فما الذي يمنع أن يكون الأمر كذلك مع كبار العلماء ؟؟ وطرب الأستاذ المازني لهذه الفكرة وقال إنه سيذيعها بالنيابة عني، وكان مفهوماً أنه سيذيعها على صفحات البلاغ فماذا وقع؟ رأيتها منشورة بعد أيام في جريدة الأهرام  بدون إمضاء فعرفت من جديد أن المازني بروحين أو أرواح، وعرفت أن الذي كان يراسل الأفكار [ جريدة الأستاذ عبد القادر حمزة ] وهو في الأخبار [ جريدة الأستاذ أمين الرافعي ] هو نفسه الذي يراسل الأهرام [ جريدة تقلا التي يرأس تحريرها الأستاذ أنطون الجميل ] وهو في البلاغ [ جريدة الأستاذ عبد القادر حمزة ]. ثم تعقبته فعرفت أن بينه وبين الأستاذ أنطون الجميل صلات، وأنه ينشر في الأهرام أشياء بدون إمضاء، رعاية لمكانه في البلاغ” .

ملخص تحولاته السياسية 

لخص الدكتور زكي مبارك في ثنايا استطراد من استطراداته ما حفظته ذاكرته و وعته من تنقلات المازني السياسية على نحو يكاد يمثل أفضل ما هو متاح لدينا من حديث عن تقلبات المازني و تحولاته السياسية في ذلك العصر المفعم بالحيوية : 
” …………. ما كاد يرى بوارق النضال السياسي حتى اندفع إليه بقسوة وعنف، وكانت باكورة مقالاته السياسية ردا على المرحوم إسماعيل أباظة باشا. وكان هذا الرجل على جانب من القوة والعمق، وكان لا ينشر شيئاً إلا بعنوان: (بيان لا بد منه)، فرد عليه المازني في جريدة “النظام” بمقال عنوانه: (لا بد مما ليس منه بد) ومضى المازني ينشر في الجرائد مقالات سياسية في تأييد الخطة الوفدية. وجاء مشروع ملنر وكان للصحفيين الوفديين في تأييده مجال – وكانت المعارضة في ذلك الوقت بيد الحزب الوطني – ثم ظهر مفاجأة مقالان في نقد ذلك المشروع لكاتبين وفديين، هما المازني والعقاد، فدعاني الأستاذ محمد الههياوي إلى التعليق على هذين المقالين. وكان رأيه أن ذلك صدع في بناء الهيئة الوفدية. ولكن شجاعة المازني والعقاد أوجبت أن أخصهما بكلمة ثناء. وجاء الخلاف بين أمين الرافعي وسعد زغلول، فادفع المازني في الهجوم على الوفد. وكانت مقالاته غاية في القوة البيانية، وفي حرارة أخطر من الجمر المتوقد، بحيث لا يشك قارئ في أن الكاتب سيعادي الوفد إلى آخر الزمان، ولكن هذا الكاتب الذي يعادي الوفد علانية في جريدة الأخبار هو نفسه  الكاتب الذي يزور جريدة الأفكار كل صباح ويقدم إليها في تأييد الوفد أشياء!؟
“ويمر زمن قصير فنرى المازني يعطف على الجريدة الرسمية للحزب الوطني ويصادق الشيخ عبد العزيز جاويش. ثم يثب فجأة فينتقل إلى حزب الاتحاد ويزامل الدكتور طه حسين في تحرير جريدة الاتحاد، مع انعطافات خفية يغمز بها هذا الحزب في جريدة الأخبار. ثم ننظر فنراه مع الأحرار الدستوريين في صحبة الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة، ونلتفت فنراه انتقل إلى البلاغ، وبوصوله إلى البلاغ خطرت له فكرة الاستقرار الموقوت!؟ وفي أثناء هذه التنقلات السياسية كانت للمازني تنقلات أدبية، فكان يرسل إلى المجلات ما تقترح عليه. وقد أنشأ لنفسه مجلة كما كان أنشأ لنفسه مدرسة؛ ولكن المازني رجل ملول، وإنشاء مدرسة أو مجلة يحتاج إلى شمائل تبغض الملال. ولم يقف المازني عند هذه المراحل من التنقل السريع، فخلق لقلبه وعقله مجالات كثيرة في الحجاز والشام والعراق، فهو من أعرف الناس بالتيارات الفكرية والسياسية في أكثر البلاد العربية.
نقد الدكتور زكي مبارك لكتاب إبراهيم الكاتب :  المازني الشهيد
كتب الدكتور زكي مبارك مقالا عن كتاب  إبراهيم الكاتب في مجلة الرسالة في ١٠ نوفمبر ١٩٤١ فقال فيه : 
” رأينا المازني في هذه الصفحات إنسانا يتنقل من أفق إلى آفاق. فهو مدرس أولاً، وشاعر ثانياً، وكاتب ثالثاً، ورأيناه يساير جميع المبادئ وجميع الأحزاب، فهل نعده من أهل الرياء ؟ل ا بد مما ليس منه بد.لا بد من أن تقال في هذا الرجل كلمة الحق، فمن الإجرام أن نترك أدباءنا تحت حماية الأقاويل والأراجيف، وهم صوت مصر في الشرق.المازني الذي عرفته رجل صادق إلى أبعد الحدود، صادق في البغض وصادق في الحب، صادق في الجد وصادق في المزاح.كان صادقاً في تأييد الأحزاب التي أيدها بالقلم واللسان. كان وفدياً صادقاً وهو يؤيد الوفد المصري، وكان وطنياً صادقاً وهو يؤيد الحزب الوطني، وكذلك كان حاله مع الدستوريين والاتحاديين، ولو بدا له أن يعاون الشيطان لبلغ غاية الصدق في تأييد الشيطان!
هذا رجل يعيش بأعصابه واحساساته، وقد يكون لبلائه باحتراف القلم تأثير في تقلباته النفسية والوجدانية. وما ظنكم برجل يكتب كل يوم فيستنفذ ما يملك من بواعث القرار والهدوء؟ وأهجم على الغرض الذي أرمي إليه فأقول: هذا رجل جنى عليه قلمه، وجنى عليه إحساسه، فلم يعرف قيمة الصبر على الانحياز إلى إحدى الجهات، في زمن لا يعيش فيه المفكرون إلا بأسندة من العصبيات السياسية أو الاجتماعية . وزارة المعارف نسيت المازني، فبينها وبين صحبته القديمة أعوام  و أجيال ، والأحزاب السياسية لا تذكر المازني، فقد تقطع ما بينه وبينها من أسباب.لا يعرف المازني غير قرائه وهم أقوام لا حول لهم ولا طول، فإلى من يتوجه هذا الرجل إذا بدا له أن يقصف قلمه في ساعة ملال؟ الموظف الذي ينتفع بمرور الأيام في احتساء القهوة والتأشير على بعض الأوراق يواجه الشيخوخة وله معاش يضمن له الراحة والاطمئنان والمتجرون في التراب يجمعون الألوف، وحدث ما شئت عن المتجرين في البهتان!
” فما مصير (إبراهيم الكاتب) وقد قضى نحو أربعين سنة في صحبة القلم والقرطاس؟ ما مصيره وقد عادى الجميع في سبيل رسالته الأدبية؟ المازني حساس إلى الحد المزعج، وهو يغم حين يرى اسمه (إبراهيم) وضعت فيه ألف بعد الراء، فهو عند نفسه (إبرهيم) لا (إبراهيم) والجنون فنون!وهذا الإحساس المرهف هو الذي صير هذا الكاتب إلى ما وصفنا في هذه الصفحات، فهل من الإسراف أن نطالب الدولة برعاية المصاير لمن يكونون في مثل حاله من العناء بحرفة الأدب والاكتواء بنار الكتابة كل يوم أو كل أسبوع في آماد طوال لا تصلح بعدها النفس لانتهاج مذهب جديد في الحياة المعايشة؟ إن الذين صدقوا في خدمة الأدب آحاد، لا عشرات ولا مئات، فهل تعجز الدولة عن تدبير معاش لأولئك الآحاد حين يطيب لهم أن يستريحوا من متاعب البيان؟
تحليل الأستاذ غائب طعمة فرمان للمازني في رواية إبراهيم الكاتب 
أنقل للقارئ هنا بعض فقرات من مقال رائع كتبه الروائي العراقي الكبير الأستاذ غائب طعمة فرمان ١٩٢٧- ١٩٩٠ في مجلة الرسالة في ٢٤ أكتوبر ١٩٤٩  بعنوان “بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني” ، تكمن قيمة هذا المقال في ان كاتبه كان في ذلك الوقت يبني قواعد ثقافته الروائية ومهاراته في الميدان القصصي ، وهكذا كان قادرا اكثر من غيره على ان يستوعب معاناة المازني ونجاحاته في هذه الرواية ، كما كان قادرا أيضا على ان يصور تتابع الحالات النفسية والوجدانية التي غلبت على الأستاذ المازني وهو يكتب رواياته ، و يحدد خياراته ما بين الاعتراف بأنه هو إبراهيم الكاتب وما بين الانكار الملتوي والانكار الجازم .
وقد نشر الأستاذ غائب طعمة فرمان مقاله بعد وفاة الأستاذ المازني ، ومن ثم فإنه لم يكن مصابا بأي نوع من أنواع الحرج مع المازني . 
يقول الأستاذ غائب طعمة فرمان في ذلك المقال الماتع : 
” وصف المازني إبراهيم الكاتب بقوله :إن أبرز مزاياه كانت أن أسلوبه صورة لنفسه الحية الحساسة المتوقدة. . . . وكان دأبه أن يدور بعينه في نفسه ليطلع على كل ما فيها، وأن يجيلها فيما هو خارج عنها ليحيط بكل ما وراءها. . . ولكن قلما رأى شيئاً خارجها إلا من خلالها ، ومن خلال هذا الوصف أعطانا المازني صورة واضحة المعالم دقيقة السمات لنفسه. . . تلك التي ترى الأشياء من مرآتها الخاصة وتبث من خلجاتها حياة فيها. . . والمازني لا يفتأ يتحدث عن نفسه، وينفذ إلى أعمق أعماقها، ويسبر أغور أغوارها، ويطلع على أخفى خفاياها. . . ثم يرى العالم من خلالها ليتعرف على أسرارها! فإذا بتلك السلسلة المتصلة الحلقات من التجارب الإنسانية تصبح مادة أدبه، وإذا بذلك النهر المتجمع من قطرات أيامه وسنيه يمد المازني بمعين لا ينضب من الأدب الرفيع. وتحت معاول الهزات النفسية، والجنبة في رحلاته الطويلة في عالم الفكر والشعور تربت نفسه، وتهذبت، وامحي بريقها الكاذب وبدت خالصة من الشوائب، ناصعة الجوهر. . . فإذا هو يعتز بها، ويحيا لها، وفي سبيلها يسعى، وبها وحدها يعنى.
غالب فرمان يصف الأمر بأنه مغالطة  ومخادعة ولف ودوران 
ونحن نجد الأستاذ غائب طعمة فرمان يصف الأمر بأنه مغالطة وهو يقول ما يدل على إيمانه هذا المعني بكل وضوح :
“فإذا أسلمنا بهذا حملنا إلى الشك في قول المازني بأنه (ليس إبراهيم الكاتب الذي تصفه الرواية؛ وإن هذا المخلوق ما كان قط، ولا فتح عينيه على الحياة إلا في روايته) فتلك مغالطة أعظم بها من مغالطة، وتنكب عن واقع الحياة، وهروب عن لذعات السنين الماضية، وذكرياتها المريرة التي قد تكون شديدة الوطأ على نفسه، قاسية الواقع على شعوره. . . وما تلك الفروق بين إبراهيم المازني وإبراهيم الكاتب إلا ضرب من المخادعة واللف يلجأ إليه المازني في كثير من الأحايين. وقد تغير المازني السنون فيبدو لعينيه إبراهيم الكاتب – وهو يمثل طوراً من أطوار حياته – رجلاً غريباً (لا تعجبه سيرته ولا مزاجه ولا التفاتات ذهنه). فينفر منه، ويجفوه لاختلافه في الاحتفال بالحياة والإعراض عن الدنيا، والوعورة في الأخلاق والنفور الناس، والمرارة من الواقع الأليم، والرضى بما هو كائن. . . فالمازني الشاب بنزوات قلبه، وخفقات روحه، وتسابيح خياله، وانسراح عواطفه قد مضى. . وخلف ذكريات مرة مسجلة على صفحات (إبراهيم الكاتب.
رواية المازني عما أثاره لقاؤه بالسيدة النمساوية 
كذلك نجد الأستاذ غائب طعمة فرمان يبحث في النص الذي كتبه المازني عما يؤيد وجهة نظره بكل وضوح  ، معبرا في الوقت نفسه عن عجبه و اندهاشه :
” ولست أدري كيف استساغ المازني أن ينفي كونه إبراهيم الكاتب بعد أن قال في الصفحة الأولى من المقدمة: بدأت هذه الرواية في سنة 1925 ثم عدلت عن إتمامها، والمضي فيها وبها إلى غايتها ونسيتها إلى شتاء 1926 فاتفق في ذلك الوقت أن عرفت سيدة نمساوية تزاول الصحافة والتعليم في آن معاً، وتوثقت بينا الصداقة على الأيام – فقد طال مقامها هنا – فأطلعتني على صفحة من حياتها حافلة بالكروب والمتاعب، ولما كنت لا أعرف لي، مع الأسف، تاريخاً يستحق الذكر، أو حياة جديرة بأن يصغي إليها، أو يطلع عليها السامع أو القارئ، ولما كنت معها في موقف يتقاضاني أن أجازيها بثاً ببث، وأن أقول لها بشجوي، كما قالت لي بشجوها، فقد ركبني عفريتي الذي استراح إلى كتفي، واطمأن إلى استسلامي لقضاء الله فيَّ معه فقصصت عليها حكاية الرواية – كما كنت أنوي أن أكتبها – وزعمت أن هذه قصة حياتي!!! ولما كانت حياتي مستمرة فقد احتجت وأنا أسرد عليها هذا التاريخ المبتدع أن أجعل الختام باباً مفتوحاً ….  ثم وصف المازني لإبراهيم الكاتب وصفاً لا أظن الذين رأوا المازني رأي العين يفوتهم هذا التشابه الجسمي بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم المازني. . .

الرواية تصور مرحلة من حياة المازني نفسه 

ثم يصل الأستاذ غائب طعمة فرمان إلى التعبير القاطع  عن استنتاجاته و تحليله  بكل وضوح وثقة  :
” كل هذا يدفعنا إلى أن نقر بأن المازني قد سجل في إبراهيم الكاتب عهداً من عهود حياته، عهداً مليئاً بالهزات النفسية، عهداً بذر بذور التشاؤم في نفسه، وأسلمه إلى شيء يشبه القنوط، عهداً لم يخل من أخطاء ونزوات وزلات وهفوات، حتى اضطره آخر الأمر إلى أن ينكر ذلك الرجل الذي يهرب من العقل، ويغور في كهوف العاطفة، ويهوم في مساربها العميقة. .
” و (إبراهيم الكاتب) قصة رحلة، تبدأ بإخفاق، وتنتهي بإخفاق. . ويظل القلب الذي شهد فصولها يتألم من الحاضر، ويتعذب بالماضي الدفين .وتبدأ هذه الرحلة حين يذهب إبراهيم إلى الريف، بعد موت زوجته، وخروجه من المستشفى وهو مجروح القلب، يعذبه حب ماري. . . يذهب إلى الريف ليسلو، وليقضي وقتاً في أحضان السكون، ومراتع الطبيعة الريفية الهادئة، بعيداً عن ضوضاء المدينة ووساوس الحب وآلامه. . ولكنه لم يدر أن القدر يترصده؛ فيقع في حب ثان أعنف وأشد. . . هو حب ثوثو بنت خالته، تلك الفتاة الغريرة بنت السابعة عشرة، وذات العينين العميقتين السوداوين المعبرتين عن طبيعة صاحبتها، والمفصحتين عن حقيقة جمالها، الحلوة النفس، الخفيفة الروح، الظمأى إلى المجهول. ولكن المرارة دائماً تفعم قلب المازني، واليأس يصحبه، والإخفاق يطارده؛ فالحب الذي اضطرمت ناره في صدر العاشقين، وجريا معه في مجاريه يتحطم على أعتاب تلك القوة الغاشمة. . . قوة التقاليد. . . فيسافر إبراهيم إلى الأقصر ليدفن هواه الجريح، ويواسي قلبه المضطرب، وليتسلى عما أصابه من إخفاق.
” وكأن القدر يلذ له أن يحرك الآثار المرهقة من قلب إبراهيم، فهناك يلاقي فتاة مصرية تدعى (ليلى). . وسرعان ما يختلج في فؤاده لهيب العاطفة التي تعذب بها، وصلى نارها، فينجرف في تيارها إلى الشاطئ ذي الأشواك. . شاطئ الحب الصارم، فيوغل في حب ليلى، ويندفع معها إلى جنائن الفاكهة المحرمة!. ولكن ذلك الشيطان الظالم. . . الإخفاق. . . دائماً يظلله بأجنحته السوداء، فيصاب بالمرض، أغلب الظن أنه أورثه تلف الأعصاب، وخلق منه إبراهيم الكاتب. “

العذاب النفسي الذي عاناه بسبب نفسه الحساسة 

ثم  يشخص الأستاذ غائب طعمة فرمان ما يصفه بأنه  العذاب النفسي المتكرر الذي عاناه المازني بسبب نفسه الحساسة في كل موقف من مواقف قصته مع الحب  :
“وبعد تلك الرحلة الفنية يسلم نفسه إلى كآبة عميقة، ويأس مرير. . . وفي خلال صفحات الكتاب نرى نفسه الحساسة المرهفة كيف تتعذب، وكيف تشقى بإحساسها. . . فالحياة لم تنر لها الطريق، ولم تهدها إلى نعيم الاستقرار، فظلت هائمة لا يثوب إليها الاستقرار، ولا تركن بزورقها الحائر إلى شاطئ الهدوء.فلا غرابة – إن اتجه إبراهيم الكاتب إلى التشاؤم بعد هول العاصفة، يلوذ بكهوفه، يرضي فيه نفسه الجريحة، ويحاول أن يحسب الألم عنصراً من عناصر الحياة: “اسمعي يا ثوثو. . . لقد أهاب بنا نتشه أن نحيا حياة خطرة. . . ولكني أقول أنه ينبغي أن نحيا حياة مؤلمة!. إن الألم لا سخيف ولا بشع. . . انظري هذه الشمس التي تنحدر للمغيب. . . إن للشمس بقعها، والشمس على رغم من بقعها هي حياة الأرض. . . هي وحدها الحياة. . . والسعادة أيضاً لها بقعها. . . ولك أن تسمّيها آلاماً. . . ولكن هذه الآلام هي التي تجعلنا نقدر السعادة التي نفوز بها، والحياة بالقلب هي الحياة الثامنة، أما من يبلد قلبه؛ من يخنقه فهذا إنما يحيا حياة هندسية في ناحية واحدة.
” هذا الشاب المتوقد كم عذبه إحساسه، وشقي بعاطفته؛ فكان يحس في قرارة نفسه بعد أن أنهى آماله، وتحطمت أحلامه – أنه يحسن به أن يستقر، ويهدأ ويلقي جسمه المنكود المتعب، ونفسه المنهوكة المثقلة بأعباء الحياة في ركن يستكن به. . . في بيت يربطه بالرباط المقدس، وتظلله ظلال وارفة من التآلف والحنان. . ولكن أنى له ذلك؟! ألم يحاول أن يتزوج من ميمي الفتاة التي أحبها، وأحبته واستغرق الاثنان في حبهما، حتى إذا أشرف على الزواج وقف ذلك الجدار المرتفع من التقاليد. حائلاً دونه ودون ما يصبو إليه. و ليلى؟. . الفتاة الظريفة الحركة الحلوة التعبير، الناضجة الجسم، السمراء اللون، الدائمة التفكير. . . لقد هام بها فجاء إليها مرة قائلاً :. . إن هذه اللحظة رهيبة في حياتي فهل توافقين على الزواج مني؟. فتجيبه : يا حبيبي المسكين أجننت؟!.
“وفي هذه اللحظة الرهيبة تتبين له حقيقة ليلى، وتكشف له سطوراً من صفحات ماضيها القاتم، وتزرع في قلبه المفتون أشواكاً، وتذر في عينيه حفنة من رماد! ويتحطم كل أمل له في البيت المنشود، ويظل الاستقرار بعيداً عنه، نفوراً منه، ويظل قلبه المرهف يتجرح الصاب في صمت!. وينظر إلى سجل أيامه الماضية من بعيد وهي متوارية خلف آفاق الماضي، والدموع تملأ قلبه، والغصة في حلقه.

تعبير المازني عن فهمه للاستقرار 

 ويصل الأستاذ غائب طعمة فرمان إلى بلورة رأي مهم للأستاذ المازني يشخص فيه موقفه من الحياة الاجتماعية والاسرية ،  وهو يري أن إبراهيم الكاتب قد وصل إلى هذه الفلسفة يحاول فيها أن يقنع نفسه ويرضيها بالتعلات، ويسوغ إخفاقه بأشياء لا يرضاها إلا القلب الكسير! ويبني على هذا حكمه النقدي بأنه لا بأس إذاً من أن يتجه المازني في ذلك الدور المضطرب، إلى الكآبة يغرق في لججها، وإلى التشاؤم يتسلى في قناعته، وإلى الألم يستسيغه، ويستمري مره، وإلى اليأس من كل شيء.
“وذات مرة تسأله أمه:  يا بني ألم تفكر في الاستقرار؟ وهو يجيب محدثا نفسه :  الاستقرار؟!. . إن البيوت الثابتة إنما اخترعت لأن الإنسان اشتهى السلامة وطلب الأمن، وأراد أن يكون مطمئناً إلى ما يتوقع. . فإن الخيال لعنة. . والحياة تظل تجربة حتى يكون للإنسان بيت ويشعر بأنه له، ويصبح هو ملكاً لهذا البيت، مشدوداً إليه، مقيداً به، والناس في العادة يرتاحون إلى هذا الشعور، ويحبون أن يكونوا على يقين من أن هناك وسادة يضعون عليها رؤوسهم كل ليلة، وأن هناك امرأة يسمونها الزوجة ترقد إلى جانبهم. . نعم فإن الإنسان إنما يطلب البيت لأنه يطلب الزوجة، وهو يطلب الزوجة لأنه يريد أن يريح نفسه من متاعب الإحساس الجنسي!! كأنما هو يريد أن يفرغ من الأمر مرة واحدة وفي لحظة واحدة. . هذا هو الاستقرار. . وليس فيه ما يخدم الآداب والفنون أو يساعد على التقدم.
عبقريته في المزج بين التشاؤم والتسامح
 وأخيرا ، يجيد الأستاذ غائب طعمة فرمان وصفه لما يشخصه بأنه عبقرية المازني في المزج بين التشاؤم والتسامح: 
“وخيل إليه أن المرء لا يستطيع أن ينظر إلى الحياة بإخلاص إلا بعين يمتزج بها التشاؤم والتسامح، وأن الدنيا حافلة بالسوء والمقابح، وأن الحياة فنها – أقوى فنونها – التثبيط، وأن الإنسان يعيش سنين وسنين ويتصل بمن لا يحصى عددهم من الناس، ولكن ما أقل الموافق منهم!. . وأن خاتمة كل حياة : الأسف والندم. . وهما جبل ينمو معنا طالعاً من أقدامنا، وقلما نعرف اسمه في صباناً، وما أكثر ما نتوهمه جيلاً رائعاً جليلاً. . وإنه لرائع وجليل. . ولكنه مخيب للأمل. . ويعلو الجبل أمامنا ويتضخم ونحن نصعد فرحين بالحياة، مغتبطين بالعيش، ثم لا نلبث على الأيام أن نتمهل وندير عيوننا، ونرجع البصر فيما خلفنا ووراءنا، فتأخذ عيوننا شقوق الفضائح وفدافد اليأس، وأودية السقوط. . ومع ذلك نظل نصعد في جيل الندامة، وماذا عسانا نصنع غير ذلك؟ ويجيء يوم نهرم فيه، وتكل أرجلنا، وتجف أنسجتنا، ونعيا بالأصفاد، فنقعد على قنة مريحة، وننظر إلى جداول الحياة المنحدرة. . الحياة التي تظل تترقرق، ويظل واديها خصيباً، وإن أخفقنا نحن، ونشفنا واحداً بعد واحد فنتعلل بذكرياتنا، وتبدو لنا هذه الذكريات أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها  .
“هذه الصورة الرمزية القاتمة الدقيقة التي رسمها المازني ليمثل فيها أدوار الحياة الإنسانية تمثيلاً يحمل إلى النفس كثيراً من الأسى والحسرة. . هي خلاصة فلسفة إبراهيم الكاتب بعد أن ألقى رحاله في أحضان اليأس، والإخفاق، يحسب أنه معذور إذا بكى إساره، وحاول أن يتلهى بسجنه. . وبدت له الصور القائمة في خميلته، صور الذكريات الحلوة المرة، الباسمة القاتمة (أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها) في نظر اليائس على الأقل! وإلا فماذا كسب من الذكرى؟ أحب ماري ثم أراد القدر أن يسخر بمنطق الحب، فافترق عنها. . ولكن ذكرياته معها ظلت حية تعمر مخيلته، وصحبته إلى الريف موطن العزاء والسلوان. . حتى إذا أحب ثوثو بقيت ذكرياته تملأ قلبه مرارة. . ثم تحول حبه إلى ثوثو قبضة من إخفاق. . وبعضاً من ذكريات كانت تعذبه وهو غارق إلى أذنيه في حب ليلى!. ومع ذلك فهو يحسب الذكريات : أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها.

زيجاته و وفاته 

تزوج الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مرتين، وتوفي في 10 أغسطس 1949.
أبرز الدراسات عنه 
للدكتور  محمد مندور: محاضرات عن المازني ، معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1954. و للدكتور عبد اللطيف عبد الحليم : المازني شاعرا، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1985 و للدكتورة نعمات أحمد فؤاد: المازني ، ط 2، الخانجي، القاهرة، 1961. 
 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها