عن الأميّة الرقميّة في زمن كورونا

فيروس كورونا تسبب في إغلاق المدارس في 191 بلدا حول العالم
فيروس كورونا تسبب في إغلاق المدارس في 191 بلدا حول العالم

تبرز الحاجة إلى الكتابة عن الأميّة في عالمنا العربي ( التقليديّة، والرقمية) لتحريك الهمم، ومضاعفة الجهود الكفيلة بمحاصرة “جائحة” الجهل التي تعتبر أخطر من كلّ أنواع الفيروسات

ليس  الهدف من هذا المقال، معالجة الأرقام المتعلّقة بنسب الأمية في العالم العربي، وتتبّع الأسباب التي تقف وراء ارتفاعها في الكثير من أقطارنا، وضبط الحلول الكفيلة بمحاصرة الآفة والقضاء عليها قبل أن تحكم على شعوبنا بدوام الجهل والتخلّف.

إنما نريد بهذه السطور، أن نفتح نافذة للأمل، من خلال ما كتبه بعض أدبائنا في موضوع الأميّة، وقد عايشوا آثارها في مجتمعاتهم، ولاحظوا الجهود التي نشأت لمقاومتها بنشر التعليم وتعميمه حتّى يشمل الصغار والكبار من الذكور والإناث.
في هذا السياق، دوّن الأديب السودانيّ الطيّب صالح الكثير من مشاهداته عندما كلّفته منظمة اليونسكو بمتابعة جهود الحكومات العربيّة في مقاومة الأميّة والحدّ من انتشارها خلال تلك التجربة، وبعد “موسم الهجرة إلى الشمال”، بدأ الطيّب صالح موسما جديدا للترحال والاكتشاف والتعلّم، فقد فوجئ هو أيضا بمدى حاجته إلى المعرفة.

فقال في مذكّراته التي نشرها ضمن سلسلة مختارات: “اتضح لي بالفعل خلال هذه الرحلة، كم أنا جاهل،زرت سبع دول عربية، من العراق إلى المغرب، وفي كل بلد كنت أكتشف أشياء جديدة.

لقد طوفت هذا العالم المتنوّع الجميل عدّة مرّات من قبل، وظننت أنّي أعرفه، ولكنني اكتشفت هذه المرّة، أنني لم أعرفه حقاً لأنني لم أنظر إليه من قبل، من هذه الزاوية، زاوية الأمّيّين أكثر من مئة مليون أمّي في العالم العربي!”
من الواضح أنّ الصدمة كانت كبيرة أمام رقم يمثّل قرابة الثلث من مجموع المواطنين العرب. لكنّ الجهود التي عاينها الطيّب صالح لإخراج تلك الحشود من ظلمات الجهل إلى أنوار المعرفة أثلجت صدره المضطرب، فأشاد بالرجال والنساء الذين انخرطوا في أجهزة تعليم الكبار، وقاموا بأعمال جليلة ترقى إلى مرتبة “المعجزات”.

حيث يقول:” كلّ الرجال والنساء العاملين في ميدان مكافحة الأمّية في العالم العربي، هم من طينة واحدة. الطيبة ودماثة الخلق وحبّ الخير والإيمان العميق بقيمة الإنسان… وهؤلاء يرون معجزات تحدث أمام أعينهم يوماً بعد يوم: هذه الكتل البشريّة البكماء، مثل الحجارة قبل أن تصنع منها التماثيل، فجأة تنطق وترى. الرجل في السبعين، والمرأة في الستّين، بعد أمد من الظلام، تنحلّ لهم الرموز، وتنفكّ ألغاز الحروف.”

ظهر القصور والعجز والخواء بنسب متفاوتة في الدول العربيّة التي لا تملك منظومة تعليميّة رقميّة تؤمّن بها تكوين الطلاّب عن بعد

ينظر الروائيّ المصريّ إحسان عبد القدوس إلى تلك المعجزات باعتبارها سحرا، وهو يقصد تحديدا سحر الكلمة المطبوعة، حيث يقول على لسان إحدى شخصيّاته القصصيّة: ” كنت أقرأ كلّ شيء في الجريدة أو المجلّة، ما يهمني وما لا يهمّني، وما أفهمه وما لا أفهمه. إنّ الكلمة المطبوعة لها عليّ تأثير السحر  كالمخدّر، إنّي أدمن على الكلام المطبوع”.
غير أنّ ذلك الإدمان اللذيذ لم يكن متاحا لعامّة الناس فكانت الأميّة في مصر حالة طبيعيّة لا تثير الانشغال، ربّما لأنّ أكثر ضحاياها من النساء. والمعلوم أنّ الواقع المصريّ والعربيّ عموما لم يتغيّر كثيرا في وقتنا الراهن، ذلك أنّ نصف النساء العربيّات لا يقرأن ولا يكتبن حسب آخر الإحصاءات الرسميّة التي تنشرها المنظّمّات الإقليميّة والعالميّة.
والمفارقة التي سيذكرها إحسان عبد القدوس بأسلوبه القصصيّ الشائق تدعو إلى التأمّل حقّا حيث يقول في توصيفه ذلك الواقع: “كلّ بناتنا جالسات في البيوت. أمّي لا تقرأ ولا تكتب، وأختي لا تقرأ ولا تكتب، وزوجتي لا تقرأ ولا تكتب،  ونحن قوم سعداء، بيوت سعيدة، وأزواج سعداء، وأولاد سعداء.”
ولعلّ السؤال الذي يطرحه القارئ المتعلّم، يتعلّق ضرورة بطعم السعادة المذكورة أعلاه، وتحديدا بمستوى المرارة التي نتجرّعها اليوم ونحن نشاهد أبناءنا جالسين في البيوت بعد أن أغلقت أبواب المدارس، ليواجهوا الفراغ الكبير الذي أحدثه فيروس “كورونا” من جهة، والأميّة الرقميّة من جهة أخرى..
فباستثناء البلدان الشقيقة في الخليج، ظهر القصور والعجز والخواء بنسب متفاوتة في الدول العربيّة التي لا تملك منظومة تعليميّة رقميّة تؤمّن بها تكوين الطلاّب عن بعد.. ونقصد بالمنظومة جوانبها البشريّة والتقنيّة “الفقيرة حسّا ومعنى” والعبارة لابن أبي الضياف، قيلت في سياق تاريخي مشابه…

فالمدرّسون يصرفون رواتبهم على المطعم والمسكن والعلاج، فلا يبقى منها شيء لاقتناء الحواسيب، والدولة لا تلتفت إلى تدريبهم للاستفادة من تلك الأجهزة إن وجدت، وأغلب الطلاّب في أسوأ حال، لا يقدرون على شراء الدفتر والكتاب… والحكومات ينخرها الفساد، حتّى أنّها مشغولة هذه الأيام بجمع التبرّعات للرفع من جاهزيّة مستشفياتها المريضة… وخدمات الانترنت رديئة في المدن المزدحمة ومنعدمة في الكثير من الأرياف النائية، وبعض الوزراء العرب يقدّمون مقترحات مثيرة للسخرية في حديثهم عن تأمين الدراسة بواسطة المنصّات الرقميّة.

بعض الوزراء العرب يقدّمون مقترحات مثيرة للسخرية في حديثهم عن تأمين الدراسة بواسطة المنصّات الرقميّة.

فقد تحدّث وزير التعليم العالي في دولة مغاربيّة عن تشاوره مع الجمعيات الخيريّة لتتصدّق بالحواسيب على الطلاّب المحتاجين، ولم يستبعد إرسال الدروس المطبوعة إلى العالقين منهم في المناطق الريفيّة بمساعدة رجال الشرطة، و”الشرطة في خدمة الشعب”، والغاية تبرّر الوسيلة، ولكنّها وسيلة بدائيّة أبعد ما تكون عن الثورة الرقميّة التي تتقدّم بشعوب أخرى…
أمام هذا الواقع الرديء، تبرز الحاجة إلى الكتابة عن الأميّة في عالمنا العربي، (الأميّة التقليديّة، والأميّة الرقميّة) لتحريك الهمم، ومضاعفة الجهود الكفيلة بمحاصرة “جائحة” الجهل التي تعتبر أخطر من كلّ أنواع الفيروسات، لأنّها تقتل الشعوب وتفتك بمستقبلها..والدروس التي غمرتنا بها “كورونا” تعلّمنا أنه لا مستقبل لدول تهمّش مدارسها ومدرّسيها… وربّ ضارّة نافعة!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها