تغول كورونا: ذكريات من زمن فات

 

يتغوّل فيروس كورونا يومًا بعد آخر، قفزت معدلات الإصابة في دول كبرى، جاءت إيطاليا وصيفًا للصين، ومن بعدهما الولايات المتحدة ثم إسبانيا، في منافسة يود الجميع أن يأتي متذيلًا القائمة فيها. كل ذلك يربك حسابات الدول، وتشدّد إجراءاتها الاحترازية حتى إشعار آخر، وتتسع رقعة الملل لا سيّما بين من يدخلون بيوتهم ضيوفًا في الأيام العادية.

لست من هؤلاء، ولا أخرج من بيتي إلا لإنجاز مهمة، ومثلما خلق الله أناسًا “قلوبهم معلَّقة بالمساجد”؛ فإن آخرين قلوبهم معلَّقة ببيوتهم، مما يجعل من حملات “خليك في بيتك” أمرًا غير جديد، لكن الجديد هو الجو العام غير المألوف، والناجم عن تسيّد كورونا بأخباره وتوابعه لكل مظاهر الحياة. مرة أخرى وجدت سلوتي في فيلم مأخوذ عن قصة حقيقية، واجتمعت الأسرة -على غير عادتها- وتحلّقت لتتابع حدثًا واحدًا، واقترحت عليهم أن نعود للوراء قليلًا، إلى عام 2003 وما قبلها بقليل.

أول من وافقني أبي، يقرأني كتابًا مفتوحًا بين يديه؛ فأنا بضعةٌ منه وأطوع له من يمينه إن شاء. ابتسم قائلًا “ليت ما كان لم يكن! هاتِ ما عندك”، ثم شاهدنا فيلم الأسرار الرسمية “Official Secrets 2019″، ودارت في الأفق أسئلة لا نهاية لها، وربطت الذاكرة بعضها بفيروس كورونا، وأخرى بأفكار دادية وسريالية لا تمت إلى الواقع بقطمير صلة!

يُنبى هذا الفيلم على أحداثٍ حقيقية،تعود للساعات الأخيرة قُبيل غزو العراق، وتحديدًا يوم 31 يناير/كانون الثاني 2003، إذ تصل رسالة من شخص رفيع المستوى في الولايات المتحدة، يعمل رئيسًا لأركان الأهداف الإقليمية، ويدعى فرانك كوزا، وقد أرسل إلى مكتب الاتصالات الحكومية (GCHQ) التابع لوكالة المخابرات الالكترونية البريطانية. تجلس إلى مكتبها ابنة السبعة والعشرين ربيعًا، كاثرين غان، مترجمة بمكتب الاتصالات الحكومية، في شلتنهام، لم تكن الرسالة موجهةً إليها، إذ مهمتها الترجمة من اللغة الصينية. دفعها فضولها لقراءة محتوى الرسالة، في وقت يتنطع جوروج بوش الابن بانتزاع أسلحة الدمار الشامل العراقية، لا دوافع سياسية لدى كاثرين على الإطلاق.

فتحت الرسالة كما تقرأ أنت رسالة تصلك من رقمٍ غريب، وإن لم تكن أنت المعنيّ بما فيها، إنه محض الفضول الإنساني. لم تضع في حسبانها توابع الأمر، فلم تفكر أن ذلك سيكون له علاقة مباشرة بزوجها العراقي الكردي المسلم، وهو يبحث عن موطئ قدمٍ له في لندن، ويتوق لقبول أوراقه لاجئًا سياسيًّا، ولا أن الأمر سيلقي بها في أتون حرب تخوضها ضدها سلطات عليا، قرأت الرسالة وصُعقت من فحواها، ثم قررت أن تتخذ موقفًا مهما كبّدها ذلك من خسائر على الأصعدة كافة.

تواصلت مع بعض أصدقائها، ووصلت نسخة الرسالة إلى صحيفة ذا أوبزيرفير” The Observer” البريطانية، واستوثقت الصحيفة من صدقية المعلومات الواردة في الرسالة، بعدما تدخلت المهام الصحفية الاستقصائية، وبعد ما يزيد على شهر في البحث والتقصي، نشرت الصحيفة الوثيقة الأمريكية في 2 مارس/آذار 2003، ومعها تغيّرت أشياءٌ كثيرة.

حملت رسالة كوزا إلى البريطانيين توجيهات واضحة بمتابعة وتعقب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وإيجاد ثغرات أخلاقية (جنسية، مالية، عائلية) للضعط عليهم بما يسرِّع وتيرة انتزاع موافقة مجلس الأمن لشن الحرب على العراق. تفهم من ذلك أن نغمة انتزاع أسلحة الدمار الشامل من قبضة صدام حسين، والترويج للعلاقة بين النظام البعثي وتنظيم القاعدة لم ينطلِ على المجتمع الدولي، ومن ثَمَّ فالحاجة إلى الابتزاز والممارسات غير الأخلاقية حل بديلًا.

جاءت أصداء تمرير الوثيقة السرية للصحافة ساخطة، اكتشف العالم أن بوش حاطب ليل، يحارب تنظيم طالبان في أفغانستان، وينقل المواجهة إلى الساحة العراقية، لا لشيءٍ إلا للغطرسة وإرضاء الغرور، وإن كان على حساب المصداقية والنزاهة؛ فهذه أمور ثانوية تقال للاستهلاك المحلي، وليست أساسية في أجندة بوش وأمثاله. لا بأس أن يرزح العراقيون تحت وطأة تبعات الحرب، وأن تتمزق أوصاله بين سنة وشيعة وعلويين وأكراد، ولا ضير أن يعربد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالموصل ويتمدد بين العراق وسوريا، كل ذلك لا يهم تجار الحروب.

سلسلة أكاذيب رفيعة المستوى

على الصعيد الدولي، لم تكن الوثيقة إلا حلقة ضمن سلسلة أكاذيب، خذ مثلًا الترويج الأمريكي لملف “الكعكة الصفراء”، وهي مادة اليو رانيوم الخام، واللازم لإنتاج أسلحة دمار شامل. أخبر البنتاغون البيت الأبيض أن المعلومات عن شراء الكعكة الصفراء من النيغر لا أساس له من الصحة، وأن البيت الأبيض لا يحق له الترويج لهذه النقطة تحديدًا، إذ الوثيقة الآتية من بريطانيا بهذا الزعم ثبت أنها مزيّفة، ومع ذلك تحايل بوش على توصية البنتاغون، فقال إن “الحكومة (البريطانية) رصدت سعي صدام حسين أخيرًا للحصول على كميات يورانيوم لا يُستهان بها من أفريقيا”.  

يومها، كان رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، يُلقّب بـ”الكلب المدلل” لبوش الابن، ما يقترب كثيرًا من وصف الرئيس الشيشاني، رمضان قديروف، في علاقته بالرئيس  الروسي، فلاديمير بوتين. يعني ذلك أن بريطانيا لن تكذِّب بوش، وأن بوش تخلص من عقبة البنتاغون في تمرير أكذوبة الكعكة الصفراء، ولا بأس من البحث عن أكاذيب أُخر؛ فالغزو يستلزم غطاءً شعبيًا ودوليًا، وصولًا إلى الهدف المرسوم مسبقًا وبأيّ كُلفةٍ كانت.

ضغط توني بلير على المدعي العام البريطاني، بيتر غولدسميث، ليغيّر موقفه من الحرب على العراق، ذهب غولدسميث إلى البيت الأبيض، والتقى برامسفيلد وكونداليزا رايس؛ ليرجع بغير الوجه الذي ذهب به، ويسحب تصريحاته السابقة عن عبثية الحرب، يُطنب في الحديث عن نزع أسلحة العراق، وتجفيف منابع الإرهاب ومن يتعاونون معه، مُدوزِنًا على وتر علاقة ما بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة. منع غولد سميث نفسه من الاستماع إلى فتوى زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، التي يقول فيها إن النظام البعثي كافر؛ فكيف يضع صدام يده في يد بن لادن؟!

في غمضة عين، يجد مستشار الأمن القومي الأمريكي، كولين باول، هديةً بين يديه، إذ قدمت له المخابرات الألمانية عربون ولاء، زودته بصورٍ جمعها شخص عراقي يدعى، رفيد أحمد الجنابي، واسمه الحركي كيرف بول، كان يبحث عن لجوءٍ سياسي في برلين. طار فؤاد باول طربًا حين رأى الصور، المفترض أنها وفق الرواية الأمريكية لشاحنات متنقلة لتصنيع أسلحة دمار، وفي استعراض مسرحي بمجلس الأمن عرض باول الصور، حاول أن يتمثل شخصية مارسيل مارسو، لكن أحدًا لم يصدقه، هو نفسه لم يصدق أداءه يومها، ورفض وزير الخارجية الفرنسي، دومينيك دو فيلبان، خوض الحرب وارتأى سُبُلًا أجدى للحوار، وهذا ما أكده الرئيس الفرنسي، جاك شيراك.

يعزف سمسارة الحرب على وتر جديد، إنها صور لأنابيب الألومنيوم حصلوا عليها، زاعمين أنها جزء من أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم؛ ليثبت لاحقًا أنها أنابيب مخصّصة لإطلاق قذائف صاروخية صغيرة الحجم. تسيطر فرنسا على عمليات إنتاج الكعكة الصفراء في أفريقيا، لا يغيب عن ناظرها شارد ولا وارد، ومع نفيها أن يكون العراق اشترى الكعكة الصفراء فضلًا عن اتخاذ خطوات أبعد، لكن واشنطن صمّت آذانها عن الحقائق، وواصلت التحضير لغزو العراق، وسط استهجان عالمي كغثاء السيل.

جاء ليل 19 مارس/آذار  2003، وانكسر فيه العراق كسرًا لم ينجبر حتى اللحظة، لم تفلح صرخة كاثرين غان في إيقاظ الضمير البريطاني، ولم تفلح محاولات هنا أو هنالك من إنقاذ الوضع المؤسف، حزم بوش وعصابته (ديك تشيني، وكونداليزا رايس، وبوول ويلفيتش، ودوغلاس فيل، ودونالد رامسفيلد، وتومي فرانكس، وريتشارد بيرل، وديفيد فروم) موقفهم، وصبوا نيرانهم على العراق من كل حدب وصوب.

قبل الحرب، لم يكن الإعلام بمنأى عن الملعب، أسهمت كتابات مراسلة النيويورك تايمز، جوديث ميلر، في تضليل الرأي العام الأمريكي، وقلبت الأمر من رفض الحرب إلى النقيض جملة وتفصيلًا. كانت “أشأم من البسوس” في نظرتها للعراق، وأكذب من مسيلمة في كتاباتها عن الوضع في الشرق الأوسط، وأسرع من نكاح أم خارجة في نقل الأخبار دون تثبت من مصدر أو أكثر، كانت تملك مصدرًا لم تتشكك في نياته، أو إنها كانت تعلم نياته لكنها تستمرئ مزاعمه، إذ توافق هوىً في نفسا وفي نفس الإدارة الأمريكية.

قامت الحرب على ساق الخداع والتضليل مع سبق الإصرار والترصد، وفي 21 أغسطس/آب 2006، قال بوش في خطاب مسجّل “لم تكن لديه (يقصد نظام صدام حسين) أسلحة دمار شامل، لكن كانت لديه القدرة على تصنيعها”، وأدرك أنه يكذب فأضاف “لكنني تحدثت أيضًا عن المعاناة الإنسانية في العراق”. يوحي كلامه أن العراق قد برئت علته، في حين يرسف العراق في قيودٍ خلّفها الغزو، وطبعت على جبين بنيه كثيرًا من الأسى والضياع.

لكن ما مصدر جوديث ميلر؟ وما مصيره عقب اجتياح العراق؟

قبل أن يموت أبو رغال، كان قد ترك بنين وحفدة كُثُر، ولسوء الحظ لم يوصهم بالسياحة في الأرض، إنما أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يبقوا في المنطقة التعيسة؛ الشرق الأوسط. صادف أحد هؤلاء الحفدة صدامًا بين البعث العراقي والإدارة الأمريكية، وكعادة جده أبي رغال الأكبر، سعى أحمد الجلبي لمساعدة أمريكا على غزو العراق، كان يملك مفاتيح المنشقين وطرق تؤدي إلى القصور الجمهورية، لكنه سقط من عين بيل كلينتون، لكنه لم ييأس واستمات في سبيل تحقيق مبتغاه.

وجد الجلبي بغيته عند بوش الابن، وكان يزوّد جوديث ميلر بمعلوماتٍ تساعد في تسريع الغزو، لا حاجة للتثبت من معلوماته؛ فإنها وإن كانت محض كذب فهو كذبٌ تشتهيه إدارة بوش، إذ هي نفسها تكذب على العالم بأسره. بعد الغزو، انتفخت أوداج الجلبي ومشى مشية الطاووس، واصفًا نفسه بالصديق المقرّب للأمريكان، وأنه سيعيد مجد العراق بالتعاون مع أصدقائه المخلصين. ساعد الجلبي الأمريكيين ليخضدوا شوكة صدام والبعث، وظن أنه سيكون محل ثقتهم وموضع مشورتهم، لكنهم لفظوه سريعًا وألصقوا به تهمة تقديم معلوماتٍ كاذبة حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل.

عاد الجلبي من رحلته “بخفي حنين”، “خسر الجلد والسقط”، ليبدأ رحلة الانقلاب على الأصدقاء المقربين بعد خراب بغداد “لا خراب مالطا”، وينزوي في دائرته الصغيرة مستعيدًا خيبات أمل أبي رغال بعدما دل أبرهة الحبشي على طريق الكعبة، وكان يعلم يقينًا نية أبرهة في هدمها، ومع ذلك ارتضى أن يكون دليلهم لقاء حفنة دولارات، مع ظهور في محفل أو محفلين متوشحًا نياشين القرب ممن خربوا بلاده. الجلبي على كل حال أفضل حالًا من رفيد الجنابي أو كيرف بول، إذ الأخير ارتضى أن يزوّر صورًا ووثائق تحرّض على غزو بلاده، لا لشيءٍ إلا مقابل الحصول على الإقامة الدائمة في ألمانيا، في حين تسنَّم الجلبي ذروة “المؤتمر الوطني العراقي”، وتسلّم أكثرمن حقيبة وزارية، وإن تساويا في بيع الوطن وذل الخيانة.

لكل حربٍ خسائر، لكن خسارة النفس لا تعادلها خسارة، هذا ما جرى مع العملاء على اختلاف خدماتهم السابقة، وللسبب ذاته أُهيل التراب على اسم جوديث ميلر، ضحت بها الإدارة الأمريكية هي الأخرى، واتهمتها بتقديم أكاذيب للمجتمع والإدارة الأمريكية، وأسهمت في تضليلهم وتحريكهم ضد العراق.

كثيرًا ما افتخرت ميلر بأنها المراسلة الوحيدة المحاطة بفريق عسكري مسؤول عن إيجاد أسلحة الدمار الشامل العراقية، لكن الفريق فشل، ما يعني أنها هي فشلت بالضرورة، وأقرّت أن إدارة جورج بوش الابن اعتمدت على محض زعم لتغزو العراق، وفي كتابها “الخبر.. رحلة مراسل” الصادر سنة 2015 عن دار نشر سيمون آند شوستر، كررت ميلر دفاعها قائلة: “إن الأخبار المبكرة كانت خاطئة؛ لأن التقييمات المخابراتية الأولية التي اعتمدت عليها التقارير كانت خاطئة، وليس بسبب أكاذيب أو مبالغات”.

عودة إلى كاثرين غان

لم تراعِ كاثرين حساسية موقفها، ارتأت أن المسألة تنطوي على أكاذيب، لا أسلحة دمار شامل في العراق، ولا صلة للعراق بالتنظيمات الإرهابية، مما يستدعي أن تتخذ موقفًا، لم يدفعها لذلك مشاعرها تجاه زوجها العراقي، المشاعر الإنسانية أكبر وأسمى من العلاقات الشخصية. أدركت ما لم يدركه أبو رغال وأحفاده؛ فسرّبت الوثيقة للصحافة، ثم اعترفت بفعلتها وأبدت أسبابها، وتعرّضت لخرق القانون رقم 1 المتعلق بالأسرار الرسمية لعام 1989.

في 25 فبراير/شباط 2004، وبعد عام بطوله من الحرب النفسية والعصبية، أسقطت هيئة الإدعاء الملكي التهمة عن كاثرين غان، لا حبًّا فيها ولا تشجيعًا لها ولأمثالها للإقدام على خطوات مماثلة، إنما لحفظ ماء وجه الحكومة. خشيت الحكومة أن تعيد كاثرين للأذهان “قضية فوكلاند”، التي أحرجت رئيسة وزراء بريطانيا، مارجريا تاتشر، وأماط عنها اللثام، كليف بونتينغ، وبعد تبرئته من التهمة الموجهة إليه، اضطرت تاتشر إلى تعديل القانون سنة 1989.

بعد أربع سنوات من القضية، أصدرت كاثرين غان بالتعاون مع توماس ومارسيا ميتشل كتابًا بعنوان “الجاسوسة التي حاولت منع الحرب”، وفي الربع الأخير من 2019، تحوّل إلى عمل سينمائي، لعبت فيه الفنانة البريطانية، كيرا نايتلي، دور البطولة، ولعب رالف فاينس دور محاميها، وأخرج الفيلم الجنوب أفريقي، غافن هود.

يقدّم الفيلم أبعادًا فلسفية على أصعدة شتى، وفيه لمسة صحافة استقصائية، وإن لم تكن بالجديدة، فضلًا عن الصراع النفسي والمفاضلة بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، وهامش المخاطرة في حياة الإنسان الطبيعي عندما يواجه حدثًا غير طبيعي. كذلك فإن الفيلم يتناول ثلاث زوايا؛ فالأولى البعد الشخصي لكاثرين غان، والثانية دور الصحافة الاستقصائية وأهميتها في تمحيص الادعاءات وتقديم الحقيقة المجردة، والثالثة الزاوية القانونية ومآلات كشف السرِّية عن وثائق رسمية.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها