عن حكاية “علي” الكاذبة الصادقة!

إني لم أشعر لحظة بالخديعة أو الغضب من “علي” بل إني لو رأيته مرة أخرى سأذهبت إليه وسأصافحه، ولكني مستاء من الظروف الأقتصادية والاجتماعية التي آلت بطفل في عامه العاشر إلى مخادع وكذاب

 التقيت به أول مرة أمام الجامعة التي كنت أدرس فيها، فلفت انتباهي عندما رأيته يشاور بإشارة لاتدع مجالاً للشك بأنه جائع ويريد أن يأكل.

فاستوقفتني هذه الإشارة؛ التي هرعت إليه على أثرها، فلم يخب ظني عندما اعتقدت أول ما عينيّ وقعت عليه بأنه لم يتجاوز عامه العاشر، بعد أن أكده عندما سألته عن اسمه وسنه، فأجاب عليّ: بأن اسمه علي، وسنه عشر سنوات!!

ثم استرسلت في توجيه الأسئلة إليه، والتي كانت من قبيل الآتي:( أنت بتروح المدرسة ولا لأ، أبوك وأمك فين، تحب تأكل ايه) وغيرها من الأسئلة التي لم تسعفني الذاكرة حتى أسطرها في هذه السطور.

فكانت إجاباته للوهلة الأولى توحي أنها صادقة؛ بل إن صدقها كان من الطبيعي أن يجعل أي شخص يسمعها يمصمص شفتيه، ويتمتم بالحوقلة، لاسيما وأنها مصبوغة بالبلاهة وبراءة الأطفال.

واتضح ذلك جيداً حين قال ليّ عندما سألته عن أمه: (أنا أمي بتعمل زيي) بعد أن أخبرني في بداية إجاباته أن والده أصيب في حادثة سير لأنه يعمل سائقا، وأنه ينبغي عليه هو وأمه أن يقوما بذلك حتي يستطيعا إطعام أخواته الأربع الذي يعتبر هو خامسهم وأكبرهم، وتبلورت بلاهته بصورة أكبر عندما أخبرني بعد أن عرضت عليه عزومة على (سندوتشات فول وفلافل) – نظراً لسعرها الزهيد المتلائم مع قوتي المحدودة- بأنه لا يحبها بل يحب (الجبنة الشيدر)!

غادرت المكان ،لم أتخيل إني سأراه مرة أخرى يشاور نفس الإشارة في نفس المكان، ولكن هذه المرة ليست ليّ بل لزميلات في الجامعة حاولت في بداية الأمر أن أتجاهل إشارته.

ولكن دقات قلبي المتزايدة جعلتني أعود إليه مهرولاً بعد أن بعدت عنه بعدة خطوات، فعرضت عليه العزومة مرة أخرى في أحد المطاعم القريبة من الجامعة، ولكنه رفض الإتيان معي مرة أخري، فبادلته السلام؛ وانصرفت في ذات الوقت الذي ذهبت فيه الفتيات إلى سيدة تبيع (مناديل)  على بعد خطوات، لم أكترث كثيراً بما كان يدور بين الفتيات وبين هذه السيدة في هذا الوقت.

رغم معرفتي به – في الغالب- عندما رأيت “علي” في المرة الثالثة. ففي المرة الثالثة؛ وجدته جالساً على الأرض ممدداً رجليه، ولاحظت آثار كدمات فيها، ودفعني  هذا إلى سؤاله عما أصابه، فقال ليّ إنه وجد 50 جنيها على الأرض وعندما ذهب ليأخذها ليبحث عن صاحبها ليعطيها له، وجد من يعرقله على الأسفلت، ويعتدي عليه بالضرب، ويزعم أنه صاحب هذه النقود، فبغض النظر عن مدى صدق نية “علي” إلا أن الاعتداء عليه آثار حفيظتي، وودت أن أعوضه عن الاعتداء عليه.

حكاية أطفال ولدوا في براثن ظروف مضنية تنتهك حقوقهم وتسلب طفولتهم وتؤول بهم إلى متسولين صادقة دون أدنى شك. 

ولكن الوجهة التي كنت أنا وزميلي الذي كان يسير معي إليها كانت في الانتظار، فقلت له:( أستنى (انتظر) أنا رايح مشوار سريع وجاي ليك أوعى تمشي أنا هجبلك حاجة حلوة). ولكن – بعد دقائق- عدت إلى المكان الذي كان يجلس فيه فلم أجده، ولكن وجدت السيدة (بائعة المناديل) فذهبت إليها أسألها عليه؛ فقالت ليّ إنه ذهب ولا تعلم أين ذهب؟، ثم أردفت حديثها موضحة ليّ أنه ينتمي إلى (الغجر) وأن والده هو الذي قام بتسريحه بعد أن لقنه ما يقوله لاستعطاف الناس، وأن والده لا يسرحه هو فقط بل يسرح أمه وأخواته، وأن كل ما يدعيه هذا الطفل محض تخرصات، وإن كانت كلماته متمترسة وراء الإدعاء بالصدق.

فتلقين والده له على قدر كبير من الحبكة، بل إن هناك أقرانا له في نفس سنه وينتمون أيضاً إلى (الغجر) كانوا جالسين مكانه، ولكن تم القبض عليهم وإيداعهم الإصلاحية، وختمت حديثها بأن هناك العديد من الزملاء والزميلات يذهبون إليها ليسألونها عن أهل هؤلاء الأطفال.

لم تنزل كلمات هذه السيدة على رأسي كالمطرقة كما تظن، لأني في البداية كنت أعلم أن حكاية “علي” قد تكون كلها كاذبة، ولكن كان عندي من حسن الظن في طفولته البريئة بأنه سيقول الحقيقة خاصة بعدما قلت له –أثناء ما كان يسرد حكايته- في أول مرة ألتقيه فيها نصاً (أوعك (إياك) تكون بتضحك عليا) ولكن من الواضح أن البراءة التي في داخله سلبت منه مثلما سُلبت منه على صعيد مظهره الخارجي.

إني لم أشعر لحظة بالخديعة أو الغضب من “علي” بل إني لو رأيته مرة أخرى سأذهبت إليه وسأصافحه، ولكني مستاء من الظروف الأقتصادية والإجتماعية التي آلت بطفل في عامه العاشر إلى مخادع وكذاب

كما إني لم أشعر لحظة بالخديعة أو الغضب من “علي” بل إني لو رأيته مرة أخرى سأذهبت إليه وسأصافحه، ولكني مستاء من الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي آلت بطفل في عامه العاشر إلى مخادع وكذاب ؛حتى يظفر بجنيه أو بلقمة، “فعلي” الذي نشأ تحت وطأة فقر مدقع ليس على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي فقط بل على المستوى الأخلاقي أيضاً، من الطبيعي أن يكون هذا وضعه، حيث إنه لم يجد من ينصحه ويوجهه إلى الصواب.

فوالده وفقاً لما قالت ليّ السيدة (بائعة المناديل) هو الذي قام بتسريحه فأين الأسرة التي تضم الطفل في كنفها وتعلمه قيمة العمل والصدق والأخلاق الحميدة؟ بل إن والده نفسه قد يكون وُلد في ذات الظروف المضنية.

لذا فلن أتزحزح قيد أنملة عن تعاطفي وتضامني معه، مع رجائي أن تكون الإصلاحية التي يودع فيها أقرانه اسم على مسمى؛ فيتم تعليم الأطفال فيها القيم  الطيبة، ومعاملاتهم على أنهم ضحايا للمجتمع في أمس الحاجة إلى يد حانية تأخذ بأيديهم، وليست مجرد مكان لقضاء عقوبة أو ملاذ للمجتمع من تسولهم. فحتى لو افترضت أن حكاية “علي” برُمتها كاذبة وأنه ليس له ولا أب أو أم، ولا حتى اسمه “علي”، وأنه طفل لن يختلف حاله عن أحوال الأطفال الذين كانوا في فيلم (العفاريت) كما قال لي أستاذي في الصحافة – أي أن هناك مَعلمة أومَعلم يستخدمهم في جلب الأموال عن طريق الشحاذة- حينما رأينا أطفالا يفعلون كما فعل “علي”.

لن أفقد تعاطفي معه لأن وضعه في هذه الحالة سيكون أدهى وأفظع. فإن كانت حكاية “علي” كاذبة وصنيعة ذهن من قام بتسريحه واستخدامه للظفر بالنقود، فإن الحكاية الأصلية وهي حكاية أطفال ولدوا في براثن ظروف مضنية تنتهك حقوقهم وتسلب طفولتهم وتؤول بهم إلى متسولين صادقة دون أدنى شك.   

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها