فلسطين التي عشت معاناة أهلها في خيالي!

أطفال فلسطينيون يلعبون في قرية أم الخير في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة

لن ألومك إذا ابتسمت إبتسامة ساخرة عندما تقع عيناك على العنوان، ولكن هذه الابتسامة سيكون فيها كثير من التجني عليّ إذا كنت تقيم في بلاد لا يمتد إليه القهر الذي يتعرض إليه الشعب الفلسطيني على يد الجلاد الصهيوني.
 وذلك لأني متأكد أنك عشت مثل هذه اللحظات أثناء فترة طفولتك؛  بعد مشاهدتك لنشرة الأخبار التي كانت تبث نُبذة عن الانتهاكات التي يتعرض إليه أحبابنا في فلسطين.
 أما إذا كنت فلسطينيًا، أو لبنانيًا، أو عراقيًا، أو سوريًا، أو يمنيًا، أو من أي بلد عانى أو مازال يعاني من ويلات الحرب، فأنا أعتذر لك مقدمًا إذا كانت كلماتي القادمة تذكرك بلحظات عشتها في الحقيقة.
 وليست في خيالك فحسب، هذا إن لم تكن مازلت تعيشها، أو على الأقل معرضا إليها من حين إلى آخر، وأعلم أن هذه الكلمات ستكون في منتهى السخافة وثقيلة على قلبك، ومع هذا فإني أطمع في أن تعصر على نفسك ليمونة، و تتحملني حتى أنتهي مما أود أن أقوله.

 

“بُص” يا سيدي كنت آنذاك طالبًا في بداية المرحلة الابتدائية، حين تخيلت نفسي أقيم في فلسطين في وقت كان يشتد فيه القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، ومن فرط سيطرة هذه الأطياف عليّ، استبد الهلع بيّ، لدرجة أنه قض مضجعيّ لأيام.
فكيف أنام، وأنا أتخيل صاروخا يفتك بيّ وبعائلتي من حيث لا أدري وأنا غريق النوم.
  أيقظت والديّ في إحدى ليالي الشتاء، وهما يغطان في نوم عميق، لكي أحكي لهما مخاوفي هذه، حاولا آنذاك تبديدها بعبارات من قبيل «يا حبيبي الحرب ديه بعيدة عننا» و«أحنا في بينا وبين الناس ديه معاهدة سلام» وغيرها من عبارات ساخرة في الصباح، ليس من أطلقها والداي حتى لا أظلمهما، ولكن من أطلقها على أختي، بعدما طلبت منهما أن يتعاملا مع أخوهما الصغير برأفة، ولا يذكرا أمامه شيئًا عن حرب إسرائيل على قطاع غزة لأنه بـ«بيقرفها بالليل».

لم تكن الفضيحة التي ظلت تلاحقني لأيام هي نهاية عهدي بهذه الأطياف، وذلك لأنها ظلت تداهمني بين الفينة والأخرى، ولكن الفرق إني كتمت مخاوفي في قلبي، وحلفت بيني وبين نفسي على المصحف بألا أحكي لوالديّ شيئًا مرة أخرى، بعد أن ساهما بقصد أو دون قصد في تجريسي، وجعليّ مادة مثيرة للسخرية.

المهم يا سيدي كما قلت لك إن هذه التخيلات ظلت تجيئني كلما كنت أشاهد مشهدًا من المشاهد المأساوية التي تحدث في قطاع غزة عن طريق نشرات الأخبار، وفي كل مرة كنت أسمع فيها عن مجزرة جديدة قام السفاح الصهيوني بالتفنن في إرتكابها على مرأى ومسمع العالم  كنت أجد نفسي حاضرًا في الحدث، فوجدت نفسي مكان “هدى غالية” الفتاة الفلسطينية التي لم تكن تكمل عامها الثاني عشر، وهي تصرخ وتلقي بنفسها في التراب حين فجعت بمقتل والدها وخمسة من أشقائها بقذيفة من بارجة إسرائيلية استهدفتهم أثناء استجمامهم على الشاطئ، ومكان الأطفال الذين فقدوا عيونهم، وأرجلهم، وأذرعهم بفعل القصف الصهيوني، ومكان شاب يصعق بالكهرباء في المعتقلات الصهيونية، ومكان أي فلسطيني يتعرض لمعاناة، سواء كانت مادية أو معنوية.

وجدت نفسي مكان “هدى غالية” الفتاة الفلسطينية التي لم تكن تكمل عامها الثاني عشر، وهي تصرخ وتلقي بنفسها في التراب حين فجعت بمقتل والدها وخمسة من أشقائها بقذيفة من بارجة إسرائيلية استهدفتهم أثناء استجمامهم على شاطئ غزة

وهنا أنا لا أبالغ عندما أقول لك إن هذه التخيلات ما زالت تلاحقني حتى الآن، عندما أرى المعاناة التي يتعرض لها المعدمون في العالم، ولكن الفرق أني لم أعد أتخيل نفسي فقط في أتون المعاناة، ولكني بت أتخيل أحبائي أيضًا فيها، فحين أرى صديقًا يبكي على صديقه الذي راح ضحية للحرب أتخيل أني فقدت أعز الأصدقاء، ولا أدري بنفسي إلا وأنا أجهش بالبكاء.

وحين أرى طفلًا يتضور جوعًا أتخيل أبناء أختي هم الذين يتضورن جوعًا، وساعتها أخرج عن طوري وألعن في «سنسفيل هذا العالم»، ولكن ما يضنيني ويكئبني أكثر وأكثر، ويدفعني إلى الانخراط في نوبة طويلة من البكاء، عندما أطرح على نفسي تساؤل يقول: إذا كنت أشعر بهذه المعاناة لمجرد إني أتخيل أني أحل محل أنُاس في معاناتهم، فما هي إذًا أحوال مَن هم يتكبدون هذه المعاناة في دنيا الواقع برباطة جأش وصبر منقطع النظير؟

وحتى لا أفتي لك بما ليس ليّ به علم لم ولن أستطيع الإجابة عن  هذا السؤال ما دمت لم أعش معاناتهم على أرض الواقع حتى تتأتى ليّ معرفة أحوالهم، لذلك فأنا أترك لخيالك أن تتخيل أحوالهم ومدى حجم المعاناة الكابسة على أنفاسهم.

إذا كنت من بلاد تعاني ويلات الحرب فأرجو منك أن تتجاوز عن الاستخفاف بالمعاناة التي عاشها العبد لله في خياله

أخيرًا لكي لا أطيل عليك أكثر من ذلك سأختم فضفضتي معك باتفاق مفاده: إذا كنت من بلاد تعاني ويلات الحرب فأرجو منك أن تتجاوز عن الاستخفاف بالمعاناة التي عاشها العبد لله في خياله.

أما إذا كنت تقيم في بلاد لا يطالها جنون الحرب وتداعياتها فاعتبر هذه السطور بمثابة مبادرة ليّ ولك تحثنا على أن ندأب في كل وقت وحين على تخيل أنفسنا حاضرين في قلب المعاناة التي يعيشها إخواننا في الإنسانية.

لعل هذا يجعل عندنا قليلا من الدم، فيوقظ ضمائرنا التي تغط في «أتعسها نومة»، ويدفعنا إلى المطالبة آناء الليل وأطراف النهار بحقهم الطبيعي والأصيل في الحياة المطمئنة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها