جدل الهوية بين الطيب صالح ويوليوس نايريري (٦)

الأديب والكاتب السوداني الطيب صالح
الأديب والكاتب السوداني الطيب صالح

كما رأينا في المقالات السابقة فقد تعرضت الثقافة العربية الإسلامية في كثير من بقاع أفريقيا لكثير من الإتهام والتشوية والتحريض، وتم إلصاق تهم تجارة الرقيق بالتجار العرب حصرا وتبرئة ساحة كبار تجار الرقيق الأوربيين.

ورغم دور السماسرة والمغامرين من العرب  في تلك التجارة القذرة التي  لا يستطيع أحد تبرئة العرب من الولوغ في  مستنقعها الآسن .

ولا الدفاع عنهم إلا أن شواهد التاريخ ،تؤكد دورهم الضئيل جدا مقارنة بالأوربيين (راجع مقال سابق :صرخة فلويد وأيام الطيب صالح للكاتب).

لم يشفع للعرب والمسلمين في أفريقيا؛ أنهم كانوا أنفسهم ضحايا للعديد من حوادث التطهير العرقي، كما في مذابح العرب في زنجبار العام 1964 التي أزهقت عشرين ألفا من الأبرياء وفي توريت السودانية قبيل الاستقلال .

ويأسف المرء أن يري مثل هذه المذابح البشعة للأبرياء تتكرر في العصر الحديث لأسباب قبلية أو اشتباكات عرقية تفاقمت بفعل أخطاء بل جرائم الأنظمة القمعية وقسوتها لتكون ضحاياها بعشرات الآلاف من الأبرياء كما حدث عبر السنين في صراع جنوب السودان وفي صراع دارفور.

مقاتلون من أحد فصائل المعارضة في دارفور-أرشيف

 

ولكن رغم ما لحق المجتمعات المسلمة من إتهامات وصور ذهنية في كثير من الأرجاء إلا أن الإسلام نفسه في جوهر رسالته، كان قد أحدث ثورة تاريخية هائلة في مفهوم قضية الهوية وتشكيل المجتمعات وخلق عوالما متفردة لإمتزاج الأعراق عبر فضاءات واسعة لتعريف الهوية كما يقول  الدكتور محمد المختار الشنقيطي.

ويضيف الشنقيطي أن الإسلام خلق هوية مركبة وجامعة، لم تعرف الأقصاء ولا التمييز لأي من أوجه الهوية .

استوعبت الهوية الإسلامية كل الفوارق العرقية لتجمع بلالا الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي على قدم المساواة مع القرشيين، كما انداحت جغرافيا لتؤهل سكان الجزيرة من المسلمين الأوائل للخروج إلي فضاءات العالم الفسيحة في آسيا وأفريقيا وحتي أوروبا.

هناك ثقافات جنوبية وأفريقية حقيقية، الدينكا لديهم ثقافة والشلك وغيرهم، كل هذه المجتمعات لديها أنظمة للعدل والتقاضي، عادات وفنون ومهم جدا أن نتعرف عليها ثم نحكم بصلاحيتها ونأخذ منها ونعطي.

حينما سألت الأستاذ الطيب صالح في ذات اللقاء الذي بدأت به هذه المقالات عن كيف يمكن معالجة قضايا الهوية في المجتمع السوداني، قال :  إن بعض الأشكال يحدث من حقيقة قلة معرفة الناس لبعضهم بعضا وقلة تواصلهم وذلك مرده الي أسباب معروفة، بعد المسافات وصعوبة السفر والتواصل.

وأضاف، أنا لا أدعوا للإنتماء للثقافة العربية بقدر دعوتي للاطلاع عليها، لأن فيها تجارب إنسانية ثرة، كما أني أدعو بذات القدر، وأرى ضرورة أن تدرس اللغات والثقافات المحلية السودانية في المدارس لأن تاريخها حافل وحتي تكون لدينا معرفة وافرة بجميع مافي أيدينا ونصل من خلالها لحالة من الإتزان الثقافي والمعرفي.

ويضيف صالح هناك ثقافات جنوبية وأفريقية حقيقية، الدينكا لديهم ثقافة والشلك وغيرهم، كل هذه المجتمعات لديها أنظمة للعدل والتقاضي، عادات وفنون ومهم جدا أن نتعرف عليها ثم نحكم بصلاحيتها ونأخذ منها ونعطي.

 حينها ذكرت الأستاذصالح بأنه قد عبر عن هذا المفهوم قبل ذلك في قصة قصيرة بعنوان (دومة ود حامد) وجوهر فكرتها  أن المكان في تلك القرية الصغيرة يتسع لكل شئ إذا أبصر الناس الحقائق المجردة، وليس شرطا أن يقوم الجديد على أنقاض القديم، فكما في القصة فإن المكان يتسع للمكنة وللضريح وللدومة ولكل ما سيأتي.

لعلي في نهايات هذه السلسلة أذكر بعض المفاتيح التي تؤدي إلي تناغم الهويات لا تصادمها.

يقول الدكتور الشنقيطي أن المجتمعات تزدهر وتتقدم حينما تحسن إدارة الهويات المتعددة بينما يفرز سوء إدارة الهويات التصادم والصور النمطية والحروب الأهلية، وجوهر الأمر كله هو العدل للجميع والحرية للجميع وأن نحب أنفسنا دون أن نكره الآخرين كما قيل .

لماذا نجحت دولة متعددة الأثنيات والهويات مثل ماليزيا بينما فشلت دولة وحيدة الهوية مثل الصومال؟.

لكن يشير الشنقيطي إلي حقيقة أن الحكم الباطش كثيرا ما يعمد إلي خلق المشكلة، وتشييع المجتمعات وتقسيمها من أجل العلو وأحكام السيطرة، كما في النموذج الفرعوني الشهير الذي قصه القرآن من أجل العبرة، الذي يربط وبشكل عضوي بين العلو في الملك والسلطان وبين والتفرقة بين الناس،  فالربط بين الحكم الباطش والسعي لتفريق الناس أمر شاهده الناس في أزمنة الاستعمار وفق سياسة فرق تسد.

لذا فمسئولية السلام الاجتماعي؛ هي مسئوليه مشتركة بين الجهات الرسمية وكافة مؤسسات الدولة من إعلام وتعليم ومثقفين وناشطين ولكل دور لا يكتمل إلا بمشاركته الفعالة في علاج المشكلة.

في المقابل تبقي حقيقة أن النضال السلمي والمطالبة السلمية أكثر فعالية من حمل السلاح وأقل كلفة من الدمار الذي لا يستثني أحدا من الأطراف.

يبقي في ختام هذه الكلمات سؤال أخير سبق أن طرحه المؤرخ السوداني البروفيسور أحمد أبوشوك؛ عن هل كان إنفصال جنوب السودان نتيجة حتميه لصراعات الهوية أم أن هناك عوامل أخري أدت لتلك النهاية؟

ويتبع هذا السؤال سؤالا آخر عن لماذا نجحت دولة متعددة الأثنيات والهويات مثل ماليزيا بينما فشلت دولة وحيدة الهوية مثل الصومال؟.

لمطالعة المقالات السابقة

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها