قصتي مع فلسطين بدأت مع استشهاد محمد الدرة

من هنا بدأت قصّتي مع فلسطين.. استُشهِد الدرّة واستقرّ في نفوس جيل كامل ،فذات يومٍ من أيام أحد أعوام مطلع القرن الـ21. كعادته كُلّ مساء يصل مع صوتٍ جهوري خاصّ يميّزه ويُبشرني بقدومه وهو خلفَ الباب، أدع التلفاز ثمّ أقفز فرحاً و أهرول لتقبيله واستقباله قبل أن يهمّ بالدخول إلى البيت.

إنّه الوالد الحاج المصطفى الذي اختار اسمي يوسُف بعدما جاءته بشرى اقتراب مجيئي إلى الدنيا، وهو في دولة الإمارات العربية التي فضّل تركها، والعودة إلى المغرب من أجل العكوف على تربيتي قبل بضع سنوات من اليوم الذي أحدّثكم عنه ضمن هذه السطور.

لا أتذكّر العام بالتحديد، كُل ما أتذكره هو أن ذلك اليوم كان من أيام ذات عامٍ بين عامي 2000 و 2003، أي بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي انتهت في عام 2005.

أيقونة الانتفاضة الفلسطينية

 

دخل الوالدُ إلى البيت وبيدِه عدد جديد من مجلّة أطفال كانت تُسمّى “السّفينة”، أمسكتُها ممتناً، ثمّ سارعتُ لتصفّح صفحات العدد كعادتي من افتتاحيته إلى ركن التعارف، قبل أن تقعَ عينيّ على تلك الصورة.

طفلٌ يبكي ويحتمي خلفَ رجل، والأخير يختبئ خلف كتلة اسمنتية ويُحاول إخفاء الطفل وحمايته من شيء ما يبدو مُرعباً، كلاهما خائفٌ ويصرخ.

وفي صورة ثانية أسفل منها، يظهر الطفلُ نفسُه مُمدّداً على حِجر الرجل الذي بدا منهكاً وظهره ملتصقٌ بجدار في الخلف.

تأثرتُ لحالهما: “أبي من هذا؟“ “إنّه محمد الدرة يا بني، طفل فلسطيني كان يتصدّى لليهود بالحجارة ليطردهم من أرضه، لكنهم قتلوه بالرصاص..

وهذا الرجل والده حاولَ المسكين جاهداً حمايته قبل أن يخترق رصاص الصهاينة جسده”.

وتابع الحديث الذي مازلتُ أتذكّر منه جزءاً جسّد بالنسبة لي تلكَ الطفولة البريئة التي اجتهد الاحتلال في وأدها بوحشيته؛ يقول الوالد: “محمد كان طفلاً مجتهداً في المدرسة، وعده أبوه بأن يشتريَ له دراجة هوائية تمنّاها ذات يوم.. لكنّ، اليهود المجرمين قتلوه قبل الفرح بها”. للأسف كانت رصاصة العدو أسرَع من أمنية الطفل؛ هنا فلسطين.

واستطرد قائلاً: “وفّى الأب بوعده رغم استشهاد ابنه محمد واشترى له الدراجة التي تمنّاها، وتركها عند قبره“ ؛ أذكر أنه كان بجانب الصورتين محتوى كاريكاتير عليه قبرٌ ودراجة.

قِصّتي مع فلسطين بدأت من هُنا؛ من صورة محمد الدّرة وهوَ شهيدٌ في حضن أبيه، صورةٌ وثّقت في الـ 30 من أيلول/ سبتمبر عام 2000 موقفاً شجاعاً لطفل جسّد معانيَ التضحية والفداء، خلّدتهُ بطلاً وأيقونة فلسطينية في الوعي الجمعي لجيلنا، وشبحاً يقضّ مضجع المحتلّ ويعرّي وحشيته أمام العالم شاهداً على جرائمه وزيفِ شعاراته.

محمد كان طفلاً مجتهداً في المدرسة، وعده أبوه بأن يشتريَ له دراجة هوائية تمنّاها ذات يوم.. لكنّ الإسرائيلين المجرمين قتلوه  للأسف كانت رصاصة العدو أسرَع من أمنية الطفل

في طفولتي، كنتُ أعيش مع القدس وفلسطين في كلّ شيء، عبر أناشيد تغنّت بالمقاومة والقضية الفلسطينية كان يشتريها الوالد، وأيضاً في الأقراص المضغوطة التي كانت تقتنيها أمي وتتضمن إما أناشيد هي الأخرى أو قصص مصورة عن أطفال الحجارة في فلسطين، والانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال، وفي غير ذلك …

إنّها القضيّة، أمانة كُلّ فرد عربي أو مسلمٍ أو إنسانٍ آمن بعدالتها، يجب عليه أن يحرص كل الحرص على انتقالها إلى الأجيال اللاحقة عبرَ أطفاله.

في زماننا، أرى أن تربية الأطفال على الالتزام بالقضية الفلسطينية، ففي هذا العصر الذي أضحى كلّ شيء فيه سهلاً، وكُلّ المعلومات والأخبار متاحة، تربية الأطفال غدَت أصعب مِن التربية التي نشأنا عليها في الأمس.

إنّها السّهل الممتنع.

عن نفسي، ما اكتسبته وأنا طفل إما أخذته عن والدَي، أو المدرسة، أو المجلات، أو القصص وكتب الوالد التي أحضر عدداً منها من خارج البلاد، في حين كانت تُسلَب منه أخرى وهو في طريق العودة، مثلما حدث معه في تونس من قِبل سلطات نظام بن علي.

وفّى الأب بوعده رغم استشهاد ابنه محمد واشترى له الدراجة التي تمنّاها، وتركها عند قبره

ما يُفسّر صعوبة تداول المعلومات حينها مقابل تدوينة الفايسبوك، وتغريدة تويتر اللتان تبلغان الآفاق اليوم في ظرف ثانية واحدة.

جيلنا اليوم أمامه مسؤولية عظيمة؛ إن أحسنّا توجيه الأطفال وتربيتهم، وكُنّا خير سُفراء لقضية أمّة رسالية قبل أن تكون مبادئ إنسانيّة، فقد نجحنا في تأطير الأجيال القادمة وإنقاذها من براثن الصهيونية.

وهذه الصناعة ليست وظيفة الآباء وحدهم؛ فحشد همم الأطفال رجال ونساء الجيل المقبل والأجيال اللاحقة حول القضية الفلسطينية، ليست مسؤولية الآباء وحدهم، إنها مسؤولية الجميع.

فإن قصّرت الحكومات بشأن هذا -وستدفع ثمن ذلك غالياً- وإن فسدت المناهج التعليمية، فنحن كفاعلين في الإعلام أو في المجتمع المدني لا يجدر بنا التفرج على هذا التقصير والفساد، وعلى ضياع القدس من القلوب بعد أن ضاعت من الأيدي. بل علينا المحافظة على نبض القدس والمسجد الأقصى حيّاً في قلوب الشعوب ولن يتأتى ذلك إلا بتنشئة الأطفال والجيل الناشئ على حبّها وأمل تحريرها.

في زماننا، أرى أن تربية الأطفال على الالتزام بالقضية الفلسطينية، ففي هذا العصر الذي أضحى كلّ شيء فيه سهلاً، وكُلّ المعلومات والأخبار متاحة، تربية الأطفال غدَت أصعب مِن التربية التي نشأنا عليها في الأمس.

ذكرتُ ضمن الحديث عن بداية قصّتي مع القضية، أشياء مثل مجلّة، وصور، وأقراص مضغوطة، وكاريكاتير؛ ما يفسّر تأثيرها البالغ و المُقتحم لحدود الجغرافيا والقلوب.
 إذاً فمهمتنا هيَ مساعدة الآباء، وتوظيف التقنية في صناعة مبادرات رسالية تتصدى لزحف سموم الصهيونية واختراقها أدمغة الشعوب. وتُعلّم الأجيال أن الفلسطيني صاحب أرضٍ والإسرائيلي مغتصِبٌ لا كلام ولا صداقة معه.

ما نعيشه اليوم من عولمة وتطور في التقنية سيف ذو حدين، سننتصر إن نحن قسَمنا السيف إلى نصفين وعزلنا النصف الإيجابي عن السلبي، وحاربنا الأخير بالأول مع الحرص على الإبداع والإتقان والإيمان بعدالة القضيّة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها