الصومُ علاجُ الغفلة

 

الغفلة من أشد أنواع الأمراض التي تصيب كثيرًا من الناس، وبخاصة في هذه الأيام التي أخذت الأرض فيها زخرفها وتزينت بصنوف المتع والشهوات، وظن أهلها أنهم قادرون عليها بما سخره الله لهم من النعم والإمكانات. وخطورة هذا المرض تكمن في أنه يصيب القلب مباشرة؛ مما يؤثر في أساسات هذا الدين، ويضعف دوافع العمل والالتزام؛ يظهر ذلك عند الإصابة بأنواع الغفلات الآتية: الغفلة عن ذكر الله، الغفلة عن غاية الخلق والوجود، الغفلة عن الموت والآخرة، الغفلة عن الأوامر والفرائض والأخلاق الإسلامية… وغيرها من ثوابت الإيمان ومحركاته.

 ولخطورة هذا الداء وجدنا القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -في مواضع كثيرة- يشيران إلى أسباب الغفلة وبيان طرق علاجها والوقاية منها. ومن أشهر الأحاديث في هذا المضمار حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: “يا رسولَ الله، لم أرَك تصوم شهرًا مِن الشهور ما تصومُ مِن شعبان؟! قال: «ذلك شهرٌ يغفُل الناس عنه بين رجَب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفَع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يُرفَع عمِلي وأنا صائِم» (رواه أحمد والنسائي) ففي الحديث بيانٌ أن أول أسباب صيام النبي صلى الله عليه وسلم هو علاج الغفلة التي تصيب الناس في شعبان، وكأنه صلى الله عليه وسلم يرشد الأمة إلى أن الصوم وسيلة علاجية للغفلة وآثارها. والسؤال هنا، كيف يكون الصوم علاجًا للغفلة؟ وفي هذا المقال نحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال النقاط الآتية:

  • يبين القرآن الكريم أن الاهتمام الزائد بالمتع والشهوات والانغماس في ملذات الحياة، يدفعان إلى الغفلة وطول الأمل. يقول تعالى: “ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ”(الحجر،3). وتحقيق الصائم لأركان الصوم في الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، يدفع إلى إدراك الإنسان لحقيقة نفسه؛ في أنه مكون من جانب روحي يحتاج إلى متابعة واهتمام لا تقل عن الاهتمام بالجانب المادي. واستحضار هذا المعنى عند ممارسة الصيام، يعالج غفلة الإنسان عن طبيعة خلقه ومراحل نموه في الحياة، كما أنه يوقفه على مواطن ضعفه، فحياته مرهونة بشربة الماء ولقمة الطعام.
  • تعد غفلة الإنسان عن غاية خلقه في هذا الكون من أهم أسباب الانحرافات العقدية والأخلاقية في المجتمعات المعاصرة. وحرص الصائم على تقديم النية في الصيام في كونها شرطًا لصحة الصوم يعالج هذا النوع من الغفلة، وبخاصة عند استشعار الصائم لأهمية إخلاص النية لله وضرورة تنقيتها من كل الشوائب لتحقيق العبودية الصحيحة، كما أمر الله بها في قوله تعالى:” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ” (البينة،5).
  • لا يصل العبد بصيامه إلى المستوى المطلوب شرعًا إلا إذا تحقق الهدف الأخلاقي من صومه؛ وذلك في الامتناع عن مساوئ الأخلاق القولية والفعلية كما نص عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْك، فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ” (رواه ابن خزيمة). وفهم الصائمين لهذا المعنى ومجاهدة النفس للوصول إلى هذه الغاية السلوكية، يعد محفزًا لضبط النفس الغافلة، وتنبيهًا لها على ضرورة إظهار أثر العبادة بين الخلق بحسن التعامل للوصول إلى رضى الخالق سبحانه.
  • بين القرآن الكريم أن من أهم أسباب الغفلة عن الآخرة ونعيمها ومعرفة ترك الوصول إليها، يكمن في التعلق بالحياة الدنيا والافتتان بزخارفها والانشغال بمتعها. يقول تعالى: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”(الروم،7). وعند الصيام يتعلق الصائمون -دومًا- بالثواب والأجر العظيم الذي وعد الله به الصائمين جاء في الحديث “..كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به…” (رواه البخاري) هذا بالإضافة إلى باب الريان الذي خصه الله تعالى لدخول الصائمين الجنة في الآخرة كما جاء في الحديث. ولا شك أن احتساب الصائم لهذا الثواب والأجر الكبير، وحرصه على أن يجعل من صيامه مَعْبرًا له، يساعد في معالجة الغفلة عن الآخرة، ويحرر من قيود متع الحياة عند تذكر نعيم الله الذي هو خير وأبقى.
  • يغفل كثير من الناس عن مواسم الطاعة وفضائل الزمان والمكان مما يفوت فرص الاستعداد والتأهب المبكر لنفحات الله تعالى في أيامه المباركات، والمعروف أن الصوم -بشكل عام- يرتبط دائمًا في ذاكرة العابدين بشهر رمضان وروحانياته، كما أنه يضبط يوم المسلم بطرفي النهار من طلوع الفجر عند السحور إلى وقت المغرب عن الإفطار، واستحضار هذه الذكريات الإيمانية يعالج الغفلة عن أيام الله، ويبقي قلب المسلم حيًا يحنو إلى الطاعات ويعد لها الدقائق والساعات.

ما أحوجنا إلى تأمل مضامين العبادات والوقوف على ثمار الطاعات، وبخاصة ونحن على مقربة من شهر رمضان المبارك، شهر الصيام والقيام والقرآن وصالح الأعمال، وذلك حتى تكون لنا زادًا في بناء نفوسنا وعلاجًا لأمراضها.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها