الإعجاز العلمي أم أنه العَجز؟

سؤال الإعجاز العلمي سؤال وجيه. هل القرآن كتاب هداية، أم هو كتاب علم دقيق، أم هو الاثنان معا، أم شيء آخر؟  ماذا نقصد بـ«العلمي» عندما نتحدث عن الإعجاز العلمي؟ من أي منظور ننطلق؟ ما هو المرجع؟ وماذا نحاول أن نثبت في الحقيقة؟

أسئلة تفتح بوابة سؤال أعمق: ما هو القرآن؟ أين دلالة ماهيته وحقيقته؟ القرآن كلام الله؛ بلاغ وخطاب من رب العباد إلى العباد. وحي تنزّل من الله سبحانه وتعالى؛ من محيط الغيبيات إلى عالم المشهودات، بلّغه عنه رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام. هو إذَن خطاب رباني مقروء، مُجمَع في قرآن مصَحَّف، اقترنت فيه السور والآيات بعضها ببعض، لتبين للإنسان رسالة خالقِه. وهو بذلك معجز ابتداء بصفته كلامَ الله. الإعجاز فيه أصل!  لأنه كلام الله! ردِّدها إلى أن تتسلل الفكرة إلى وعيك! إلى أن تخترق طبقات العادة المُغبِرة. دعها تهز أهداب بصيرتك. أنت إذ تفتح القرآن وتقرأ كلماته، في حضرة مالك الكون، يحدثك!

فهل يدخل في إعجازه الشامل معنى «الإعجاز العلمي»؟

نردف السؤال بسؤال آخر؛ ما هو العلم؟ يقول معجم المعاني الرقمي؛ «العلْم اسم فعل علِم؛ علم بالخبر، حصلت له حقيقة العلم، أي عرفه وأدركه» العلم إذن مستوى من مستويات الإدراك والفهم يجعل الجاهل عارفا، يتأتّى بعد حالة استفهامية تقع للإنسان فتسوق البحث عن الجواب. والمقصود عموما بتعبير «الإعجاز العلمي» هو مطابقة إشارات قرآنية صريحة كانت أم خفية، لحقائق واكتشافات سجلها العلم المادي الحديث، والاستدلال بتلك المطابقات على مصداقية القرآن وربانية مصدره، بوصفه تنزّل قبل أن يتوصل الإنسان إلى تلك الاكتشافات. ومع أن المقارنة مغرية، فهي ملغومة؛ وهي تُنزل في كفتيها مقياسين فكريين متوازيين. متضادين في جوهرهما، فالإسلام -وبذلك القرآن- مبني على فكرة أن للكون إلها، وأن هناك كونا محسوسا ملموسا، وأكوان غيبية مجهولة. أما العلم المادي فهو مبني على فكرة أن المادة هي أصلُ وفرع الأشياء؛ ابتداؤها وانتهاؤها مادة، وقياسها مادي، وما لا يقاس بالحواس والتجربة، لا ثبوت لوجوده.

والمادية لها سبب -أسباب- تاريخي؛ تاريخ الكنيسة والطبقية الإقطاعية اللذين أنجبا الحملة التنويرية، التي قلبت موازين القوى وأفسحت المجال للشعوب لتقرر مصيرها، تركت ندبا في الذاكرة الجماعية الغربية. كانت منطلق تأسيس مدارس فكرية وفلسفية وأيديولوجية نحّت الإله ووضعت الإنسان في المركز، وشيدت حوله منظومات كاملة، من اقتصاد رأسمالي، وعقلانية تجريبية، وعلمانية وحقوق مدنية وغيرها من المدارس التي تتلمذت على أيديها الدول. وأبقى لديهم رفضا للدين والتدين الذي قتل علماءهم وكبل عقولهم ومنعهم من العلم لقرون. هذا الفصْم، الذي صَدّرته الامبريالية لاحقا، مكّن الحضارة الغربية من الصعود، إلا أن العلم المادي -وإن أحرز تقدما واسعا- مقصور بقصر العقل البشري. وتاريخ العلوم يشهد أن نظريات و «حقائق» علمية كان يظنها المجتمع العلمي من اليقينيات، نسخَتها نظريات «وحقائق» أخرى. لأن الحقيقة هي أنه لا يقين مطلقَ في العلم المادي، لأنه مهما آل إلى الدقة والتجريد، فإنه لا يفلت من الإدراك الحسي والتأويل. وهذا الأمر يغيب غالبا عن الإنسان الألفيّ الذي يقدس العلم حتى يكاد يؤلهه.

أما في مفهومه القرآني، فالعلمُ عِلمان؛ علم إنساني قابل للاتساع، يمتد ويتمدد كلما أعمل الإنسان عقله في التفكر والتدبر، فهو حالة فهمية لمجال لامتناهي. مستمَدّ من العلم الآخر؛ العلم المطلق، العلم المتصل الموصول الذي لا يُستثنى منه شيء، الذي لا جهل فيه. العلم الذي لا يمكن أن تسعه إلا الذات الإلهية؛ وحده الخالق القيوم الحافظ لكل شيء قادر على أن يسع كل شيء علما. يقول الله تعالى في سورة الفرقان «قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا» (6)؛ هو وحده عالم السر، كلّه. أما علم الإنسان فهو علم محدود بحدود ملكات عقله واتساع نفسه ومقومات بيئته. إدراكُه حبيس نفسه. لا يستطيع حتى أن يتجاوزه إلى إدراك شخص آخر! يقول الله عز وجل في سورة الإسراء «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (85)

إن الإنسان لا يستطيع أن يرتشف العلم الحق الحقيقي إلا عندما يتصل بعلم الله، ويتمحور حوله. ليتعدى المادة إلى خالق المادة، ويتعدى أفق المحسوس إلى عوالم الغيب. هي منظومة وجودية تختلف جذريا عن المنظومة الأيديولوجية القائمة. الحاسرة للكائن فيما يعبر الحواسَّ ويكيلُه العقل. أما الإسلام فلا يفصل بين العلوم الكونية والعلم بخالقها؛ بعضها من بعض، هو علم واحد مسترسل الأطراف: القرآن محوره، باب لحقائق الوجود، يعلّم الإنسان؛ من ربه، من هو، لماذا وُجد، ينبئه بأنباء غائبة عن حواسه، ويعلمه كيف يسيّر نفسه، وكيف يعيش مع غيره ومع العالم من حوله.

نحن حين نربط الآيات المنزّلة بالاكتشافات الحديثة قد نقوم ضمنيا بربط المنظومتين ربطا أعوج، من دون أن نعي أي طرف هو الأشمل والأوسع؛ حينما تُكتشف اليوم معلومات جديدة بتقنيات العصر، عن العالم الذي نعيش فيه، ونجد ما يقابلها فيما حدثنا عنه الله سبحانه وتعالى في كلامه؛ علينا أن نتأمل في ردة فعلنا الشعورية، أن نتتبّع المرجع الذي ننسب إليه فخرنا. هل نفتخر بأن قرآننا «يتماشى» مع ما توصل إليه الغرب؟ بأن تديننا ليس «تخلفا»؟ أم أنه يكشف لنا تفريطنا في التدبر والتفكر في الآيات المقروءة والمنظورة؟ ويذكّرنا أن عالِم السّر وضع بين يدينا سرّا -وأسرارا- يجلّيها لطارق الباب؟ هل نكتفي بهذا «النصر» المصغر أم أن مساحة السؤال في عقلنا وبحثنا تتسع؟ هل نعجب من أن القرآن يتماشى مع العلم أم أننا نعجب من أن العلم يساير القرآن؟ أين يقع يقيننا؟ وأين يقع شكنا؟

إن المسلمين اليوم في هذه اللحظة التاريخية في حالة ضعف، والضعيف مبهور بالقوي، يحسب علمه هو منتهى العلم، وفكره هو منتهى الفكر، وسلوك خطاه هو طريق التقدم والرفاه. عقدة نقص تشوه قراءتنا لذواتنا وتاريخنا ومستقبلنا لأننا نقرأها ومرجع قياسنا الدائم، هو الغرب. نرجع إليه كلما احتجنا صورة استباقية لما نريد أن نؤول إليه. لابد من حَوَل إذن، حوَل يستحيل عوَرا في كثير من الأحيان.

نحتاج إلى تغيير المنطلق. إن القرآن دليل انطلاق وإنتاج حضاري، وليس كتاب خمول نُسقِط عليه ما بلَغَنا عن غيرنا بتنقيب فاتر. هو كتابٌ نور؛ جاء ليقلِب قراءاتِنا، ليمكّننا من ذواتنا، ليعلمنا كيف نحيا وكيف نموت، كأفراد وجماعات ومجتمعات ودول، ليعلمنا النظر والإبصار والتفكير. ليس صُحفَ تحْلِية نفتحها كلما آلَمَنا تخلفنا ونطّ اللاوعي يتغنّى بأمجاد فاتت «لقد كان لنا السبق…». لا سبق للقاعس الناعس. حتى وإن دارى عوراته بجمل وأفكار تخديرية. ولا تقدم لأمة تشد على حبل الله بقفازات، تضع بينها وبينه شوائب فكرية تشوش على بصيرتها.

إن النموذج الغربي نموذج بشري قاصر على عدة أصعدة، ولعلنا اليوم نشاهد الخلل الذي بدأ يتصاعد إلى السطح -لكن هذا حديث مقال آخر-. نحتاج أن نحرر أنفسنا من وضعية الدفاع التي استأنسنا بها، من الانبهار المسموم. نحتاج إلى فِطام من هذا الرضاع السيء. إن من البداهة أن نجد في كتاب الخالق حقائق أسرّها عن خلقه. لكن من البلادة أن نكمّش الواسع المديد لندخله عينَ ابرة العلم المادي، لنغدي به عجزنا ورغبتنا في إثبات وجودنا بانهزامية. نظرتنا ولجوؤنا «للإعجاز العلمي» اليوم عرَض مرَض عميق، حان وقت الاستشفاء منه، والشفاء في ذات الكتاب! – لكن هذا أيضا، حديث مقال آخر.

إخلاء مسؤولية

هذا المقال ينقل رأيي المتواضع -القابل للتطور والتغيير والنقد والتحسين والإصابة والخطأ- وينتقد منظورا معينا للإعجاز العلمي، ولا يتحدث عنه بالعموم. لا مجال لإنكار أهمية وعمق الكثير من الأعمال والمنشورات حول الموضوع، لعلماء أجلاء جزاهم الله عنا كل خير. إن هدف المدونة هو الحث على السؤال ومساءلة الذات لتسديد نمط التفكير ومراجعة البديهيات.

نسأل الله الحكمة وسداد الكلام..

 ———————–

المراجع

القرآن الكريم.

كتاب السيد فريد الأنصاري رحمه الله، «بلاغ الرسالة القرآنية، من أجل إبصار لآيات الطريق».

معجم المعاني الرقمي

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها