بعز عزيز أو بذل ذليل

إن المتتبع لردود الأفعال المتعاقبة بعد المجزرة الإرهابية بنيوزيلندا، يجد بعضًا من المبشرات النبوية التي دائمًا يسأل عنها الشباب الغيور، وبخاصة طلاب العلم منهم. والتي منها: كيف يمكن للمسلمين في هذا العصر أن يعرّفوا برسالة الإسلام في قيمها الربانية (الرحمة، العدل، المساواة، الحب، تمني الخير للآخرين…) وهم في حالة ضعف مركب وقلة حيلة واضحة من الناحية الإعلامية؟

فمعظم وسائل الإعلام المؤثرة يمتلكها جماعات الإسلاموفوبيا أو المؤيدون لهم. ومن الناحية الاقتصادية: فأموالهم مستنزفة في إطعام الفقراء والمشردين واللاجئين من ضحايا الحروب والنزاعات الدائرة في معظم البلاد المسلمة. ومن الناحية السياسية: فليس هناك قوة سياسية تدافع عنهم، أو تنادي بمناصرة قيمهم الربانية، وحريتهم الدينية في ممارسة الإسلام وتطبيقه، إلا على حذرٍ واستحياء؟

 وفي وسط هذا الواقع الأليم، تأتي فجيعة المسلمين من حيث لم يحتسبوا في مجزرة نيوزيلندا التي راح ضحيتها عشرات الشهداء الذين قضوا إلى ربهم بنية العبادة في خير البقاع في يوم جمعة مبارك ..
ومع الحزن الشديد والمصاب المروع الذي حطّ بالمسلمين وغير المسلمين من أصحاب القلوب السليمة والفطرة الإنسانية الحية، يمكن أن يرى المسلم بعضًا من المبشرات والتي منها:

أن دماء الشهداء لا تذهب هدرًا، إنما كما هي شاهد لأصحابها في صدق إيمانهم وإخلاصهم في علاقتهم بخالقهم، تكون أيضًا شاهدًا (أي دليلًا) يرى المتابعون من خلاله قوة الحق وصدق المبادئ في صمود أهلها ورقيّ أخلاقهم في ردة فعلهم وتعاملهم مع مصابهم، وهذا -بشكل عام- مما يُكسب للحق أعوانًا ونصراء يتحولون -في كثير من الأحيان- إلى أتباع في مسيرة الحق..
 وفي نفس الوقت تصيب الحاقدين رُعُونة مفضوحة، تدفعهم إلى مزيد من الكراهية المنبوذة والإصرار على مهاجمة الحق وأهله ونصرائه من غير أتباعه؛ فيسيئون في ذلك لأنفسهم؛ فيتعرى باطلهم، وتكشف أحقادهم، وفي كلا الموقفين تتجلى المبشرات النبوية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ لا وبرٍ، إلا أدخله الله  كلمة الإسلام بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعز الله به الإسلام، وذلًّا يُذل الله به الكفر”.
 ولقد تحقق ذلك عيانًا بيانًا بعد فجيعة نيوزيلندا المؤلمة: فقد رأى الجميع كلمة الإسلام وشعائره تدخل كل بيت “بعز عزيز” أي بإنصاف هؤلاء المنصفين الأعزة الذين تحدثوا عن الإسلام ودافعوا عنه برغم أنهم ليسوا من أتباعه، إنما كان دافعهم في ذلك ما تتمتع به نفوسهم من عزة فطرية تأبى الظلم والاعتداء أو العبودية للكراهية والعنصرية، فنطقت بالحق ألسنتهم، وأعلنت نصرتها وتعاطفها مواقفهم في عدة مظاهر منها: التغطية الإعلامية الواسعة المقروءة والمسموعة والمرئية التي اهتمت بنقل الحدث، وبالحديث عن الإسلام والمسلمين، بل وبعرض شعائر المسلمين من الصلاة، والآذان، والحجاب، وقراءة القرآن، وترديد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وخطبة الجمعة، وصلاة الجنازة، والتعزية، وتحية الإسلام…. وغيرها من الشعائر الروحانية والأخلاقية التي توقظ الفطرة وتردها إلى أصلها.

ما كان أحد يتصور أن هذا الدخول العزيز للإسلام في بيوتات غير المسلمين يمكن أن يحدث على من خلال غير المسلمين وعن طريق وسائلهم ومواقفهم؛ ولكنها مبشرات النبوة.

ولقد رأينا أيضًا كلمة الإسلام تدخل كل بيت “بذل ذليل” أي عن طريق كلمات الكراهية والحقد والافتراء التي دشن لها الأذلاء من المعادين للإسلام والحق؛ إذ بدؤوا في نشر الأكاذيب والشبهات حول الإسلام ظانّين أنهم يهاجمونه، ويقضون على آثاره وانتشاره، وكانت النتيجة على عكس ما أرادوا؛ فقد كانت حملاتهم الشرسة وسيلةً أخرى انتشر ذكر الإسلام من خلالها في بيوت لم تسمع عن الإسلام من قبل، ولقد حفّزت مواقفهم العدائية كثيرين أن يقرؤوا عن الإسلام، ويتواصلوا مع أتباعه ومؤسساته، ربما في البداية لوقاية أنفسهم مما أشيع عن الإسلام كذبًا وافتراء، ولكن سرعان ما تحول هؤلاء بعد اطلاعهم على حقيقة هذا الدين إلى نصراء وأتباع في كثير من الأحيان، والسبب في ذلك هي ذل الذليل في خضوعه للكراهية والحقد على حساب الإنسانية وكرامة الإنسان.

إن هذه المواقف الإنسانية النبيلة تمثل العزة الحقيقة، وتؤكد عزة أهلها، وإن كانوا من غير المسلمين، كما أن مواقف الكره والعداء تجسد الذل الحقيقي، وتكشف عن الأذلاء الذين يقومون بها، وإن ادعوا أنهم من المسلمين. والشاهد في ذلك: أن قدرة الله نافذة في نشر هذا الدين وبلوغه ما بلغ الليل والنهار من خلال ذل الذليل أو عز العزيز، ومجزرة نيوزيلندا خير شاهد وأوضح دليل.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها