غربة

 

لم أكن أخال يوما أن للغربة طعم

وكم من متذوق كان يتجرع علقمها في صمت ويجاهد نفسه على أن تقول ابتسامته الصفراء عكس ما يشعر به، وفي كل مرة يفشل

وكم من مفتون بغير أرض نشأته، عاندته الحياة ولمّا أذن له الله بالاستقرار فيها صار عبرة لأولئك اللذين لا يعتبرون ويصرون على التغرّب ثم يعودون نادمين

وكم من بائس زج به تعسّفيّا خارج دياره، لم يجد حلا إلا الرضا.. فاستحالت قسوة الواقع وقهر الفراق في نفسه اكتئابا ومرضا

وكم من لسان حق كفر بصدقه ولعن ضميره ألف مرة لما خطف الموت منه عزيزا ولم يكن هو في لحظة الوداع الأخيرة حاضرا، لسطر دوَّنه كان يرجو به صلاحا فارتد ضده سلاحا

في الغربة نحن وحيدون مهما اكتظت أفواهنا بأسماء وألقاب ومهما تزاحمت المكالمات في هواتفنا ومهما ألحت العزومات والدعوات علينا ومهما امتلأت بالعباد طرقاتنا…

تبقى لحظة الوجع لحظة وحدة، ولحظة المرض لحظة ندم وغربة ولحظة الفزع لحظة حزن وحرقة وتبقى أصعب اللحظات أن تشعر بكل هذا ثم تعجز على إخبار ال “ماما”، لأنها لا ترتضي فيك وخزة إبرة.

يا صاحبي هذه اختياراتنا وأقدارنا التي سيقت إلينا وسعينا إليها بكل جوارحنا والتي حذرنا، بصيرٌ، مرارا وتكرارا من عواقبها والتهينا وواصلنا فيها سيرنا… وربما بعضنا سيق إليها مكبلا بالأغلال على مضض دون رغبة.

يا صاحبي مهما بنينا من الذكريات بيوتا وقصورا في غربتنا لن تكون كأوطاننا.

رغم الوجع في أركانها ورغم صرخاتنا الثكلى في شوارعها الفارغة دون إجابة حتى من صدى أصواتنا ودون أدنى حق أو اعتراف بجميل.. تبقى أوطاننا خير الديار.

– وإن ظلمتنا؟

– وإن ظلمتنا، وإن قست علينا، وإن أنكرتنا وإن رفضتنا

في كل مرة كنت أغادر فيها وطني فرحة كان القدر يعاقبني إما بحادث أو مرض وكأن البلاد التي أطأها تطردني أو لعلها تحذرني أو ربما تستجيب لدعوات أمي التي ترفض حد اللحظة إلا أن أكون بجانبها وتعاتبني وتغريني وتحاول التأثير في كلما اتصلت بها علّي أن أتخلّى وأعود إلى أحضانها.

  أرأيت يوما في حياتك شخصا لا يتعظ يا صاحبي؟

  إنه أنا

أنا هو ذلك الشخص الذي يصر على أن يؤذي نفسه، فيبكي وحيدا، ويمرض وحيدا، ويتألم وحيدا، ويسير وحيدا ويفزع في ظلام الليل وحيدا ويصرخ في سواده الحالك وحيدا ولا يتوب أبدا

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها