عقدة المهاجر

“بداية، لابد أن أؤكد على عظيم حبي وجزيل امتناني لهذا البلد الذي احتواني وقتما طردني بلدي الأم. نقدي لا يعني إلا أنني أحمل كل الحب لأمريكا وطني الأول”

لا تقلق، هذا ليست كلماتي وإنما هي استهلال حتمي لكل عربي/أمريكي قبل الشروع في نقد الولايات المتحدة. هكذا جرت العادة بين المهاجرين القدامى، هذا إن تجرأ ثلة منهم على نقد “حضن سام” سواء على الملأ أو بين جيرانه.

ترفض الجالية العربية وصفها بـ “الجالية” كما يتربى معظما على لغة واحدة وهي ليست بالإنجليزية وإنما “الأمريكية”. لابد وأن تتقن نطق What’s up لتصبح Sup. عليك كاهل الحذف كل T ثانية كما في Title.

نشأت الولايات المتحدة على فكرة أفواج الهجرة، ونجاح كل فوج أصبح مرهونا بقدرة تلك الجالية على الذوبان في المجتمع الذي سبقهم إلى الأرض الجديدة. في حالة أمريكا التي تخوض حروباً أيديولوجية منذ نشأتها، أصبحت مسؤولية الأمركة للمهاجر في أن ينصاع للثقافة السائدة من دون جدال. سواء كانت تلك الثقافة سماع أغاني لا يفقه من موسيقاها شيئا أو الامتثال للقرار السياسي باعتباره “مصلحة قومية”.

عسكرة المواطنة:

يقول المؤرخ الأمريكي الراحل هاورد زين: “تقوم فكرة القومية Patriotism على مبدأ توافق مصلحة الفرد والحكومة. لذلك، إن قررت الحكومة خوض حرب ما، فمن واجب الفرد الوطني Patriot الانصياع لهذا القرار من مبدأ إثبات حبه لوطنه.”

ما الذي يدفع المهاجر حديثاً للخوض في غمار حروب معظمها على البلد التي جاء منها أصلاً؟ إنها وثيقة المواطنة اللامكتوبة. أن تخدم في الجيش فذاك الوسام الذي سيجبر كل جيرانك – خصوصاً البيض منهم- على الاعتراف بحبك لأمريكا وبالتبعية، عدم تطرفك.

تفتقر سجلات وزارة الدفاع لأرقام واضحة تمثل عدد المهاجرين العرب ممن يخدمون في السلاح الأمريكي بعكس جاليات أخرى مثل اللاتينيين ولذلك أسباب سياسية يطول شرحها. خلاصتها أن الاعتراف بالعرب كجالية مستقلة قد يمثل مشكلة حقيقة في التعبير عن ولاء هذه “الجالية” وتمثيلها السياسي. لذلك، تصنفهم وزارة الهجرة ضمن البيض.

ما نعلمه أنه وحتى العام 2016، كان هناك أكثر من مليون ونصف من المحاربين القدامى الذين يحمل أحد أباءهم على الأقل جنسية أخرى. هذا الرقم من إجمالي ١٨.٨ مليون. إنما يعبر عن رغبة جامحة في “خدمة الجيش” لاكتساب أسرع أوسمة المواطنة. أن تكون عربياً أمريكيًا فتلك شريحة، آن تكون عربياً خدم في الجيش الأمريكي حتى وإن لم تحمل الجنسية بعد، فتلك شريحة أرقى مجتمعياً.

يقول صديقي العراقي (ق.م) الذي حصل حديثاً على حق اللجوء: أمريكا هي بيت عائلتي القادمة. لا سبيل لي للعودة لبلدي الأم. لا طريق آخر سوى الاندماج. يرى صديقي أن حرب العراق كانت للتحرير ويتفق مع تشديد إجراءات الهجرة.

الانصهار الثقافي: ضرورة أم اختيار؟

تظهر عقدة المهاجر جلية في التناقضات الثقافية والسياسية بين ما تراه الحكومة الأمريكية وبين ما رآه هو بأم عينه في بلده الأم. هناك مشكلة حقيقية في التعبير عن نقدك للقرار السياسي إن كنت من الملونين المهاجرين. فاتهامات معاداة أمريكا، الغرب أو حتى التخلف هي تهم جاهزة سلفاً لتواجه أي نقد صادق من الملونين.

لعل ذلك يفسر تصويت العرب الأمريكيين بنسبة كبيرة للحزب الجمهوري الذي دوماً ما يرفع شعارات قومية محافظة. تغير ذلك قليلاً عقب الهجوم على الجالية العربية المسلمة عقب أحداث ٩/١١ لكن كثيراً من الرعيل الأول والثاني يصمم على التصويت جمهورياً حتى ولو كان لصالح بوش الابن وترمب.

تحالف المحافظين والعرب منطقي: المجتمع العربي الأمريكي يتفق ماليا مع الجمهوريين في عشق الأعمال الخاصة ورأس المال. اجتماعياً: يتفق الفريقان في قضايا الأسرة، التدين، المثلية، الإجهاض. إلخ

يقول مدير معهد العرب الأمريكيين والسياسي المخضرم جيمس زغبي:

“هناك عرب أمريكيون ملتصقون بالجمهوريين من الناحية الثقافية، وببساطة لا يمكنهم أن يصوتوا لصالح ديمقراطي”.

لكن هل يعني ذلك إن تقارب الأجندات هو السبب الوحيد للخجل العربي الأمريكي؟ المال بالتأكيد له حضوره.

الجيل الجديد والاعتذارية العربية:

هناك تناسب طردي واضح بين ندرة الموارد المالية للمهاجر وبين إقباله على الاندماج الوطني Patriotic assimilation

تخيل نفسك من الرعيل الأول الذي بالكاد ينطق الإنجليزية ويوقن بانعدام قدرته على السفر لوطن بديل. تخيل أيضاً أن يعتمد دخلك بقدر كبير على سمعتك في الحي وذلك بسبب متجرك، حرفتك أو حتى عملك في المقاولات، كل هذه المهن تستلزم سمعة طيبة لن تمتلكها في الريف الأمريكي إلا بالتماهي مع مجتمعه. أي بديل تملك سوى الاستيعاب الكامل داخل المجتمع الجديد؟ الحل إذاً في تمكين المهاجر حتى يمتلك قراره.

يقول مارك كريكوريان، مدير مركز دراسات الهجرة CIS في كتابه (قضية جديدة ضد الهجرة: القانونية وغير القانونية):

هناك سببان في أن المهاجرين المتعلمين قد يشكلون في الواقع تحديًا أكبر أمام الاستيعاب الوطني من غير المتعلمين. الأول هو أن لديهم موارد أكبر للاستفادة من الفرص الحديثة في العيش بأسلوب عابر للحدود Trans-national

ومن ثم، العيش في دولتين (أو أكثر) في نفس الوقت. وهذا يعني أن روابطهم (وروابط أطفالهم) بالبلد القديم أقل عرضة للضمور، ما يقلل من احتمال أن ينتهي توجيه عواطفهم (..) إلى بلدهم الجديد.”

ببساطة: كلما امتلكت المال والعلم، كلما زادت فرصك في السفر لدول أخرى وبالتالي، لا ترى ضرورة للتنازل عن مبادئك العروبية لأجل مكانة اجتماعية محلية مزيفة.

لذلك ترى الجيل القديم من المهاجرين ينتفض كلما واجهت أمريكا هجوماً “إرهابياً” رافعين شعارات (ليس باسمي – Not in my name) فيما أراه اعتذارية عربية ينفض بها المجتمع القديم عن نفسه تهمة التطرف. الجيل الجديد يرفض ذلك تماماً. بالعكس، كلما زادت يحاول الجيل الثالث والرابع من العرب الأمريكيين كشف جذور المشكلة الكامنة في ممارسات أمريكا العسكرية وما التطرف إلا ردة فعل.

من يمتلك حق نقد أمريكا؟

لطالما كان نقاد أمريكا الأشد من الملونين الأمريكيين. لكن نقدهم لا يتجاوز أسوار مربعاتهم السكنية الفقيرة. لكن الصوت الأعلى للمعارضة كان وما يزال مرهوناً بين المؤسستين: الجمهورية والديموقراطية ممثلة في الأغلبية البيضاء. وهنا يبزع وميض خافت من صوت الجيل الجديد للأقليات ممن تجاوزوا عقدة المهاجر والاعتذارية العربية. ويرون في ممارستهم المعارضة الديموقراطية والنقد الجاد وطنية حقيقية.

يقول الكاتب الراحل جايمس بولدوين ذو الأصول الأفريقية: “أنا أحب أمريكا أكثر من أي بلد آخر في هذا العالم، ولهذا السبب بالضبط، أصر على الحق في انتقادها على الدوام”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها