أركان الطغيان.. ثنائية التمييز والترويض!

تلك الفئات المنتقاة تعيش في الغالب داخل تجمعات سكنية ومناطق تخصها دون غيرها، ولها نمط حياة معين في نظام منعزل ومكتفٍ ذاتيا ولا يحتاج باقي فئات المجتمع إلا لخدمته.

السمة السائدة والمشتركة بين الأنظمة القمعية والديكتاتورية بكافة ألوانها وأشكالها هي سعي تلك الأنظمة إلى فرض سيطرتها على الدولة عن طريق تفريق طوائف الشعب وتمييزها وتمايزها عن بعضها البعض بحيث تملك فئة معينة من الشعب كل الامتيازات والحقوق ومقومات الحياة المرفهة ليكونوا عصا الحاكم وعصبته ومن يدفعون ويدافعون عنه، بينما السواد الأعظم من الشعب لا يملك أبسطها بحيث يتم إلهاؤه في دوامة مستمرة لا تنتهي من محاولات الحصول على أبسط مقومات الحياة الكريمة.

بتلك الطريقة يبقى المجتمع منقسماً مختلفاً متمايزاً بحيث تتوزع الأدوات والوسائل اللازمة لإسقاط النظام أو تغييره أو إجباره على تنفيذ رغبات الشعب والعمل على تمتع كافة طبقاته بنفس الحقوق والواجبات بين طبقات متعددة لا توجد بينها روابط أو قواسم مشتركة توحدها، وتبقى المنظومة الحاكمة وحدها المسيطرة على كل الفئات والطبقات بواسطة سياسة ومنهجية التمييز لفئات معينة والترويض لفئات أخرى، فالأولى لديها ما تخاف عليه من ثروة ونفوذ ونمط حياة مرفهة، والثانية أمامها ما تخاف وتفزع منه من قوى أمنية وعسكرية ومخابراتية وقضائية تنكل وتسحق بشتى الطرق والوسائل وأبشعها كل من يرفع صوته مطالباً بالتغيير والعدل والمساواة وسيادة القانون والحريات وغيرها من حقوق الإنسان الطبيعية في المجتمعات المتوازنة ذات القواسم المشتركة والمتمتعة بهامش مقبول من الأسس والقواعد الديمقراطية.

هناك من ينتابه العجب ويستغرب بل ويستهجن أن يرى بعض فئات المجتمع “أي مجتمع غير ديمقراطي ولا يتمتع بالحريات وسيادة القانون والمساواة” تكاد تكون منفصلة عن الواقع وتدافع باستماتة عن النظام الديكتاتوري الحاكم رغم كل المشاكل والكوارث والمصائب التي يتسبب بها في كافة نواحي الحياة والتي عادة ما تصاحب الأنظمة السلطوية ذات الصبغة العسكرية في الأغلب، والتي لا توجد في أولوياتها خطط للعمل على استقرار الدولة وازدهارها وتقدمها سياسياً وعلمياً وصحياً وثقافياً بقدر ما تولى اهتمامها وتوجه جل طاقاتها وإمكاناتها إلى بسط القبضة الأمنية وتسخير الإعلام لتجميل وتبرير تلك القبضة المحكمة لبقاء الوضع تحت سيطرتها لاستمرارية النظام مهما كانت العواقب التي ستؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى تفتت الدولة ورهن قرارها للدول والجهات الخارجية التي تدعم النظام بكافة وسائل البقاء والاستمرار خدمة لمصالحها ومشاريعها.

لا داعي للعجب فتلك الفئات المؤيدة للنظام تعيش في ما يشبه “الغيتو” المنعزل عن باقي مكونات المجتمع بطبقتيه المتوسطة والفقيرة، فتلك النخبة والعصبة على سبيل المثال لا الحصر لها مدارسها الخاصة بها التي لا تستطيع تحمل نفقاتها غيرها ولو استطاع فهناك شروط معينة للالتحاق بها ودائماً ما تكون تلك الشروط هي الحاجز الذي يقصر منتسبيها على أفراد الفئة المختارة، وتتدرج تلك الفئات في المراحل التعليمية المختلفة بنفس الطريقة وعند التخرج يجد أفرادها وظائفهم جاهزة وعلى المقاس وفي الغالب ما تكون في نفس تخصص الوالدين فابن القاضي يصبح قاضياً وابن الضابط يصبح ضابطاً وهكذا.

تلك الفئات المنتقاة تعيش في الغالب داخل تجمعات سكنية وفي مناطق تخصها دون غيرها لارتفاع تكلفة تملكها والعيش فيها ولها نمط حياة معين في نظام قريب الشبه بمجتمع صغير منعزل ومكتف ذاتياً ولا يحتاج باقي فئات المجتمع إلا لخدمته والحفاظ على إسلوب الحياة المرفهة الخاصة بأفراده دون السماح لتلك الفئات القائمة على خدمتها بمجرد التفكير في أن تصبح جزءاً منه.

قد ينتابك الغضب والسخط ولكن ثق تماماً أن تلك الفئة التي تدور في فلك النظام لا مانع لديها من أن يتم إحراق نصف الشعب وسحل وقمع نصفه الآخر والتنكيل به بشتى الطرق لو أن هذا سيجعل أفرادها قادرين على قضاء فترة الإجازة والاستجمام بهدوء وسكينة وممارسة التسوق بأريحية دون وجود ما يعكر ويهدد صفو ونمط حياتهم المترفة، فما تراه باقي طوائف الشعب امتيازات دون حق للطبقة الحاكمة وحاشيتها توقن تلك الطبقة أنه من صميم حقوقها، وفي نفس الوقت أي محاولة أو دعوة للمساواة حتى أمام القانون وليس في أسلوب الحياة والتوزيع العادل للدخل والثروات المملوكة للدولة أي الشعب تراه الطبقة الحاكمة وحاشيتها امتيازات لا حق لباقي طوائف الشعب فيها.

طريقة الحياة تلك ورتابتها وقولبتها في إطار معين تجعل أصحابها لا يصدقون كل ما يقال وينشر وتتحدث عنه باقي فئات الشعب المطحون في دوامة لقمة العيش وتوفير احتياجات الحياة الأساسية فتلك الصفوة المنتقاة لا يوجد في قاموس حياتها العوامل المقلقة والمؤرقة للمواطن العادي من فواتير للخدمات وسبل العيش من مأكل وملبس ورعاية صحية وكهرباء ومياه وتعليم وتنقل وغيره.

وفي نفس الوقت لو حاول أحد أو بعض أفراد تلك الفئة المختارة والمرفهة انتقاد النظام الحاكم أو معارضته حين يرون أن طريقة حكمه ومعالجته للأمور وإدارته للأزمات والمشاكل التي من الممكن أن تؤدي لانهيار المنظومة بأكملها، وبالتالي تصبح طبقتهم مهددة بفقد تواجدها وامتيازاتها وهذا وحده يكون في الأغلب سبب معارضتهم للنظام وليس من أجل الوطن والشعب فيتم التنكيل بهم وإسكاتهم ولكن بطريقة مختلفة عن باقي طوائف الشعب، فتلك النخبة لها حسابات وطريقة تعامل مختلفة، يكفي فقط تجريدهم من بعض تلك الامتيازات والعمل على إهانتهم والحط من مكانتهم ومظهرهم أمام المجتمع لإجبارهم على السكوت والابتعاد عن المشهد ولو لم يكن هذا كافياً يتم الزج بهم في السجن ولكن في ظروف مختلفة عن باقي سجناء النظام من المعارضين السياسيين والمفكرين والمثقفين ودعاة حقوق الإنسان والحريات العامة والإعلاميين وغيرهم حتى يتم اسكاتهم وفي نفس الوقت لا ينضم إليهم المزيد من أفراد طبقتهم بحيث لا تتم استثارتهم ودفعهم للتآمر والتوحد ضد النظام لو تمت معاملتهم ومعاقبتهم بنفس عنف وهمجية ووحشية النظام مع باقي المعارضين من الطبقات الأخرى.

ختاماً، من الأقوال المأثورة عن ابن خلدون قوله “حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه، فيوصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدون عنه الأخبار الصادقة التي يعاني منها الشعب”، وأضيف لكن تلك السياسة والمنهجية تنهار عندما تصل الأوضاع لنقطة معينة حين تصبح خيارات طوائف الشعب الواقعة تحت قهر النظام ومنتفعيه محصورة بين خيارين لا ثالث لهما إما القبول بعيش حياة قاسية مذلة تفتقد لأبسط سبلها أو الانفجار واندلاع الثورة والتي تكون بعض موجاتها عنيفا صداميا لانتزاع تلك الحقوق.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها