بنت الأمازون

في ضاحية من الضواحي القريبة للشبونة، في حي سكني عائلي حيث أين تتشابه المنازل في شكلها الخارجي متشاركة في قِصَر طول السُّور الخارجي المُمَكِّن الرّائي من مُعاينة الحديقة المحيطة بالبناء مُمَثِّلة جزءا رئيسيّا من الدّار.

في المنزل الذي قطنته مع مجموعة من الطالبات، وفي الغرفة المشتركة حيث تنتصب لوحة خشبية مُعلَّق عليها أوراق حُبِّرَ فوقها قوانين العيش المشترك في المنزل ووُضِع تلفاز لا يُذيع إلا القنوات المحلية (البرتغالية) لا تفتحه إلا زميلة برتغالية لمشاهدة صلوات الكنيسة آخر الأسبوع.

في شرفة تحضُنها شجرة الصنوبر المتربّعة وسط الفناء الخلفي للمنزل، اِسْتَرخت أريكة مغلّفة بالجلد المتين، وجُلِبَت طاولة مُربّعة الشّكل تحيط بها كراسٍ تستعملنها فتيات السكن لمراجعة دروسهن أو لتناول المأكولات السريعة.

هنا كان لقاءنا الأول! أتت ليلا بينما كنت أراجع بعض الأعمال على حاسوبي، وقفت قبالتي مبتسمة، حيتني مُعرِّفَة بنفسها: “مرحبا! اسمي”بْرُونَا”، أنا جديدة في المنزل معكم، وصلت اليوم”.

بادلتها التحية، ثم انتقلنا في حديث قصير حول الدراسة وحول السفر إلى هذه المدينة التي جمعتنا وحول البلاد التي منها أتت كلتانا.

لا أذكر أني رأيت “بْرُونَا” يوما من الأيام التي جمعتنا إلا وابتسامة تفيض من محيّاها مُوزِّعَة الراحة والبهجة على المحيطين بها.

“بْرُونَا” فتاة برازيلية ذات وجه مستدير يميل إلى الامتلاء تتوزّع فيه ملامح رقيقة يفيض منها الانشراح، بشرتها سمراء ممزوجة بحُمرة، شعرها منساب يتدفّق في غزارة حتى إن “بنت الأمازون” بدا لي اسما مناسبا لها؛ كأني بشعرها “الأمازون” في تدفّقه الأغزر من بين أنهار العالم! لقتني “بْرُونَا” يوما فحيتني بابتسامتها المعتادة البليغة عن كل قول، ثم أردفت تتهجأ: “سلام عليكم”. ربما أرادت أن تُدخِل عليَّ الأنس فحدثتني بلسان آلفه.

هكذا أجدُها كلّ مرّة تبتكر الأساليب لإسعاد الآخرين، “بْرُونَا”، كم تمثلت فيك الإنسانية واسعة بلمساتك الصغيرة التي تتفننين في رسمها بتلقائية! سألتني “بْرُونَا” ذات حديث جمعنا عن معنى “إن شاء الله” التي سمعت مسلمين يرددونه. قلت إنها تُقال يقينا بأن كل أمر مستقبلي متعلق بإرادة الإله الخالق، أُعجِبت “بْرُونَا” بهذا المعنى قائلة: جميل، جميل!” وأخذت تردّد “إن شاء الله.. إن شاء الله..” كطفل صغير مبتهج بكلمة جديدة تعلمها يشدّ على كل حرف متوقفا عليه برهة؛ كأن الإنسان يحتضن الكلمة حرفا حرفا إذا ما لاقاها أول مرة! “بْرُونَا” فتاة تحب الحديث منقّبة عن الدهشة في كل ما تسمع؛ ربّما، بل أظنّ أنها حقّا من أولئك الذين لا يتذوّقون الحياة دون التطلّع لأمر جديد يُخبرهم أن ما ينتظر اكتشافهم عظيم! وأنّ هذه الحياة ليست أحادية اللون إنما التنوع سنّتها التي جعلتها زاخرة بالألوان.

تقول لي “بْرُونَا” أنها زارت بلاد المغرب الأقصى منذ عام حيث تزامنت زيارتها مع حلول رمضان وكان الشهر حينئذ “أغسطس” فكيف نصوم رمضان الآن (السنة الفارطة) في “مايو”؟ شرحت لها أن رمضان شهر قمري وأننا نعتمد التقويم القمري في مناسباتنا الدينية الإسلامية.

تهللت أساريرها لما علمت من أمر جديد، مكرّرة عبارتها التي تقولها كلّما دُهشت: “وااو! يا إلهي!” “إنه لذيذ! أرجو أن تتذوقيه” قالت وهي تهديني قطعة من البطيخ. ثمّة أرواح لا يفُوتُها تقاسُمُ الأشياء الجميلة مع الآخرين، ربّما لإيمان دفين يسكُنهم بأنّ تقاسُمَ الجمال يُضَاعِف حجمه.

“بْرُونَا”، شهران فقط جعلاني أتعرّف لروحك الكريمة التي تحاول ما استطاعت أن تنثر البهجة في الطريق وتزرع المحبّة مع كلّ خطوة. “بْرُونَا”، كنت رفيقة درب قصير لكنه عامر بالدروس لعلّ من أهمّها درس الإنسانية التي تجلّت لي؛ أكبر من كل الفوارق والحدود! هذه الإنسانية منها تشرق بسمتك ويتفتّح قلبك للمحبّة واسعا.

“بْرُونَا”، لن أنسى عونك لي وأنا أحمل الحقائب مُغادِرة ولن أنسى سلامك الدافئ ورجاءاتك الجميلة. كوني بسلام أيتها الإنسانة أينما كنت! كوني بوُدٍّ غامر يسقيك فتتفتّحين كزهرة كل يوم!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها