فخ العاطفة في الخطابات السياسية

برع بعض السياسيين في ضبط لغة جسدهم كي تكون متلائمة مع لغة الخطاب؛ ففي حين يمكن أن يكذب السياسي في خطابه، قد تفضحه لغة جسده أي حركة اليدين والنظرات وطريقة الجلوس والحركة.

السياسة لها أثر قوي في تحريك العواطف البشرية، وهو ما يجعل البعض يبرر لاستخدام مدغدغات للعواطف كالدين، والوطنية، والخيانة، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وكلها أمور من شأنها أن تفجر مجموعة من العواطف وتمزجها لتنتج عواطف أخرى جديدة لم يحن بعد الوقت لتدقيقها بشكل علمي صحيح.

فبعد الاستماع لخطاب قائد سياسي معين ورؤية الحشود الغفيرة التي تهتف له، وتردد بعد الخطاب كلماته وتقتبسها، بل تتبنى مواقفه وتمنع أي نقاش حول صحتها، لا بد أن نتساءل عن الطرق التي يتبعها القادة السياسيون للتأثير في الحشود ونقل رسالتهم إليهم، وترسيخها في أذهانهم حد إقناعهم بها وبحرمة الطعن بها. وفي هذا السياق هناك عدة تكتيكات نفسية يتمكن من خلالها بعض السياسيين من التحول لقادة للرأي العام لتسيير الجماهير كما يشاؤون.

ومن الاستراتيجيات المعروفة والظاهرة خلال الخطابات الاستراتيجيات المتعلقة بسلوك القائد السياسي وتصرفاته على المنبر، فكل تفصيل ظاهر مهما كان دقيقاً يؤثر بشكل ما في الجماهير المستمعة؛ ومن هذه نذكر نبرة الصوت التي تعتبر من أهم عوامل التأثير؛ فالصوت هو ناقل الرسالة وهو القادر على إظهار قوتها أو على العكس، كشف ضعفها. كما أن الابتسامة في وقتها تحمل تأثيراً أيضاً، إلى جانب لباس القائد ومظهره الخارجي، ووقفته وقدرته على التحدث بلغة سليمة قريبة من لغة جمهوره. وكيفية اللعب على أوتار معينة في سيكولوجية الجماهير.

لكي نقنع الجماهير ينبغي أولا أن نفهم العواطف الجياشة في صدورها و أن نتظاهر بأننا نشاطرها إياها ثم نحاول بعدئذ أن نغيرها عن طريق إثارة بعض الصور المحرضة بواسطة الربط غير المنطقي او البدائي بين الأشياء” (غوستاف لوبون).

إلى جانب ذلك، يبرع بعض السياسيين في ضبط لغة جسدهم كي تكون متلائمة مع لغة الخطاب. ففي حين يمكن أن يكذب السياسي في خطابه، قد تفضحه لغة جسده أي حركة اليدين والنظرات وطريقة الجلوس والحركة. ومن أشهر السياسيين الذين يتحكمون بلغة جسدهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.

أما الاستراتيجيات المتعلقة بمحتوى الخطاب فهي كثيرة وتختلف من قائد لآخر بحسب الأيديولوجية التي يتبناها والرسالة التي يريد نقلها، فإن كان قائداً سياسياً لجماهير محافظة دينياً فيستخدم الخطاب الديني سواء بشكل مباشر باقتباس آيات وأحاديث، ومطالبة الجماهير باتباع القيادة الدينية التي تمثل بنظره “إرادة الله”، أو بطريقة غير مباشرة عن طريق استخدام تعابير متداولة بكثرة بين الجماهير المحافظة، والظهور في مناسبات دينية أثناء ممارسة الشعائر.

ولا تقتصر هذه الطريقة على الخطاب الديني فقط، بل تنطبق على كل خطاب أيديولوجي محكم مثل الخطاب القومي أو العشائري أو اللاديني، فكل منهم يسعى من خلال منبره لترسيخ فكرة واحدة في أذهان الجماهير، ودفعهم إلى تبنيها كما هي وتحويلها إلى مسلّمات، وتجاهل أي بديل عنها أو اعتبار البدائل أفكاراً خطرة وهدامة يجب محاربتها.

ومن بين التكتيكات النفسية المستخدمة في الخطابات السياسية للقادة الـ “Priming effect” وهو التأثير في الذاكرة الضمنية للجماهير والأفراد، عن طريق تكرار مصطلحات وتعابير، والحديث عن مواضيع معينة بشكل مستمر وعلى فترات متعددة، أو ربط فكرتين معاً لخلق ارتباط بينهما في أذهان الناس وترسيخه كفكرة جديدة لاستخدامها لاحقاً.

فعلى سبيل المثال نذكر تكرار القادة السياسيين في السنوات الأخيرة لذكر كلمتي “الإسلام” و”الإرهاب” في الجمل نفسها أثناء خطاباتهم؛ من أجل ربط الإرهاب العالمي بالدين الإسلامي في أذهان الناس، ومن ثم كسب دعمهم لاحقاً عند الحديث عن شن حرب “ضد الإرهاب الإسلامي”، فبربط المصطلحات يمكن شيطنة أي فكرة أو مجموعة أو تأليهها.

لكن هنا من المهم أن نذكر ما قاله الباحثان في جامعة شيكاغو، دانكن واتس وبيتر دودز، في دراستهما حول “تشكيل الرأي العام”، بأن القادة السياسيين لا يؤثرون في كل الشرائح التي تشكّل الجماهير عن طريق وسائل الإعلام، بل إن جلّ تأثيرهم يكون في الأفراد العاطفيين الذين من السهل التأثير فيهم.

وبذلك فإن جماهير الداعمين بشدة للقادة السياسيين يكونون في الغالب من الناس سهلي التأثر، وليسوا بالضرورة من أولئك الذين يعملون عقولهم وينظرون إلى الخطاب نظرة نقدية قبل تبني الأفكار واتخاذ المواقف. وعليه، كلّما زاد وعي الأفراد لضرورة الانتباه وعدم السقوط في فخ الخطابات الديماغوجية للقادة السياسيين قلّ تأثرهم بها، ومن ثم يتوسع طيف الرأي العام حول القضايا المختلفة وتقل المسلّمات.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها