المسلمون في حاجة إلى “غربلة” تراثهم

يتصوّر بعض رجال الدين -وللأسف- أنه بمجرد نقد بعض الانحرافات الفكرية العقائدية التي أصبحت -بطريقة أو بأخرى- جزءًا من منظومة الدين.. يتصور أولئك أن البناء الديني سيُهدم بأكمله فوق رؤوس الأشهاد، وهم يعلمون علم اليقين أن هذه الانحرافات مشكوك في صحتها؛ لذا يُرجئون حل هذه القضايا حيناً ويسوِّفونها إلى أمد غير معلوم؛ خوفاً من ذلك حيناً آخر.

هذا بمجرد المناقشة والاستماع إلى النقد، فما بالك العمل على تغيير هذا الحكم الموروث وإرجاعه إلى الجوهر الأصلي، أو قل: تجديده وتطويره؟ ونسي هؤلاء أن الدين يملك قوة التجديد والتطوير، بحيث يمكن أن تنتقد كل التراث الموروث ويبقى الجوهر الثابت أصيلاً.

فالموروث الديني، بصفة عامة، يعني أنه كان هناك عمل إنساني يدور حول العلوم الدينية، إذن فكل عمل إنساني هو معرَّض للانتقاد، وكل عمل إنساني موجود ليناسب زمانه ومكانه ويكون بطبيعة الحال قابلاً للتطوير؛ حتى يناسب زمننا.

أما أن نأخذ كل ما هو موروث ونطبقه في زماننا، فهذا وإن دل على شيء فإنه يدل على رجعية الفكر الذي تخاذل عن التطوير واعتنى فقط بتطبيق ما هو متوارث؛ كي لا يكلف نفسه عناء ليجعل الأمور أكثر سهولة، مع تأكيد أن الثابت الأصلي، وهو القرآن الكريم، موجود وكُتب من رب العالمين كي يناسب كل زمان ومكان.

النقد سلوك عقلي ﻭأﺳﻠﻮﺏ متحضر، ﻗﺎﻡ وتطوَّر لدى ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ المتحضرة، حيث احترام الإنسان وتمكينه من حرية التفكير والاختيار.

تاريخياً، قامت عملية نقد التراث المسيحي بأوربا فيما عرف بالنقد الأعلى والنقد الأدنى، التي حاربتها الكنيسة آنذاك دفاعاً عن الموروث الديني، انتهت إلى انتصار حركة نقد التراث وتحرر أوربا من تخلف القرون الوسطى.

وفي المقابل، فقد قامت عملية نقد التراث الإسلامي في منتصف القرن الماضي على يد مجموعة من علماء حركة النهضة مثل الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم، التي صبّت نقدها على الموضوعات المنتشرة في كتب الحديث والتفسير كالإسرائيليات وغيرها، ونبهت إلى ضرورة تطهير الفكر الإسلامي من مخلفات التاريخ وعبث يد الأنظمة المتعاقبة التي امتدت ظلالها عليه، والتي استمرت تلقي بظلالها على الواقعين الثقافي والديني للمسلمين حتى الآن.

وهناك -بلا شك- العديد من تلك القضايا السالفة الذكر، التي ما زالت عالقة، والتي تمثل انحرافاً عن الأهداف السامية التي من أجلها بعث المولى القدير الأنبياء والرسل، ويعانيها بالفعل رجال الدين المتنوّرون من جميع الأديان والمذاهب، والذين انبروا بكل جرأة وشجاعة لتغيير الواقع المؤلم وإبراز الأصل المستنير.

وبالطبع، فهم لم يَسلموا من الانتقادات اللاذعة من أصحاب التفكير الأحادي المتزمّت والذهنية المقفلة التي لا تنفتح على مواقع التحدي، وقد وصل الأمر إلى أن يطلق على أحدهم لقب “الضال المضل”؛ بسبب آرائه النقدية وتفسيره بعض القضايا العالقة المغايرة للإجماع والتي اعتبرها البعض -للأسف- من صلب الدين.

في واقعنا ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، لدينا حساسية مفرطة من نقد اﻠﻤﻮﺭﻭﺙ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ؛ ﻷﻥ دائرة ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ اتسعت وتجاوزت كل ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ، حتى الموروث الذي أنتجته عقول البشر أﺻﺒﺢ مقدساً! وأصبح التقليد في كل الأمور المعرفية والفكرية هو اﻟﺴﺎﺋﺪ، وهذا ناتج عن التخلف المعرفي وﺍلعجز عن الإبداع وعدم الثقة بالنفس.

منهج التقديس هذا لا يشكل خطرًا على فهم الماضي فقط؛ بل على التعامل مع قضايا الحاضر وبلوغ المستقبل، وهو ما يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن أن يكون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، كما نعتقد، ثم نتقيد بآراء واجتهادات زمان ومكان محدَّدين؟ في كتاب “وعّاظ السلاطين”، دلّلَ المفكر العراقي على الوردي على فشل الرأي الذي يعصم فترات الإسلام الأولى من النقد باعتبارها “نموذجاً” لا يحتاج لتطوير أو تبديل، برأي الرسول -على الصلاة والسلام- نفسه، الذي قال إن الإسلام سيرجع غريباً كما بدأ أول مرة، فكان يقول لأصحابه إنهم سيتبعون سنن مَن كانوا قبلهم من الأمم.

وفي أواخر أيامه، توقع ظهور الفتن كما توقعها مِن بعده عمر، فكلاهما أدرك طبيعة التطور الاجتماعي وقواعد الصعود والهبوط.

وهاجم الوردي أيضاً الاتجاه الذي يضع الصحابة فوق البشر، مستشهداً بأحاديث البخاري التي روت أنهم تشاتموا مرّة أمام النبي وتضاربوا بالنعال، وهذا أكبر دليل على أنهم بشر يتنازعون ويتنافسون ويتحاسدون، وتجري عليهم نواميس المجتمع البشري.

كذلك، قال إن مَن يزعم أن طريق الصحابة هو طريق النجاح تناسى أن الصحابة أنفسهم اتبعوا طريقين متناقضين أيام عثمان بن عفان، وتساءل أيهما نتبع: طريق أبو ذر الذي أراد أن يصادر أموال الأغنياء أم عثمان الذي أراد أن يُبقي عليها؟ “أمة هي خُمس العالم من ناحية التعداد، تبحث عنها في حقول المعرفة فلا تجدها، في ساحات الإنتاج فلا تحسها، في نماذج الخلق والتعاون المؤثر والحريات المصونة والعدالة فتعود صفر اليدين. صرنا حضارياً وخُلقياً واجتماعياً آخر أهل الأرض في سُلمّ الارتقاء البشري. حكومات فرعونية إقطاعية، وجماهير تبحث عن الطعام، وفن يدور حول اللذة، ومتدينون مشتغلون بالقمامات الفكرية.

ينظر المسلمون اليوم إلى التقدم الحضاري بعيون ناعسة، وينظر العالم إليهم اليوم نظرة استهانة، إنهم أقرب إلى الموت لا الحياة”.

هكذا وصف محمد الغزالي المفكر الإسلامي، أحوال المسلمين، محاولاً تلخيص الأزمات التي يحياها اليوم العالم الإسلامي على الأصعدة كافة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها