بَين زِنزانتيْن (2)

تم ترحيلي بعدها بأعجوبة إلى سجن المنصورة لأداء الامتحان ويا ألطاف الله جاء الامتحان من الأجزاء التي مررتُ عليها سريعاً في عربة الترحيلات ونجحت في هذه المادة بتقدير امتياز.

بعد أن عزلتنا إدارة السجن في زنزانة ثانية تعاملت معنا على أننا حدث استثنائي” في السجن حتى إنها أخفت عنا خبر قدوم مدير أمن المحافظة للمرور على السجن وأخبرتنا كذباً أنه مرور لحقوق الإنسان خوفاً من أن نحدّثه في هذه الأمور.

وكان لنا “وضع خاص” زيارة بلا سلك -لا إهانات- يُسمح لنا بقدرٍ لا بأس به من سُبل العيش – وقد سُمح لنا مع الوقت حتى بالكتب العادية وبعض أدوات النظافة، وقمنا بتهريب أنبوبة القلم داخل رغيف الخبز واحتفظنا بأوراق عُلب العلاج لكي نكتب عليها.

على العكس تماماً كانت الزنزانة الأولى لا يُسمح لها بدخول الكتب وربما تعرّض أحد أفرادها للإهانة فالتزم الصمت، ولا يمانع أحدهم من الحلاقة وخلع الملابس أثناء الدخول، وكانوا يخرجون حُفاةً للزيارة من خلال سلك حديدي يحجب حتى رؤية الأهل فضلاً عن حجب التواصل الجسدي معهم.

كنا كَمن يُحاول أن يرسم لهم نافذةً على جدارهم، إلا أنهم كانوا يزيلونها بأيديهم وكنا نُرسل لهم أثناء استلامنا (للتعيين اليومي) رسائل حماسية مكتوبة على معلبات (الفول) مفادها أنهم سمحوا لنا بالكتب والزيارة المفتوحة لكي يطالبوا بها، وطلبنا منهم أن نتعاون معاً للمحافظة على هذا الوضع ولكن لا حياة لمن تنادي!! 

وقد وصل بهم الأمر أن قام أحدهم يشتكي أحد الطلبة لضابط السجن فقامت الإدارة بدورها بمعاقبته بالحلاقة (زيرو) ليرجع زنزانته بعدها حيران أسفًا،وكان فتى جميلا بكلية الهندسة يدعى “عبد الله” التقيت به في زنزانة الزيارة، حاولنا بعدها أن نضمه لزنزانتنا لكن إدارة السجن رفضت بالطبع.

بعد أن تأكدت إدارة السجن من أننا أصبحنا جزيرتين منعزلتين تماماً وأن عددنا قد أخذ في التناقص ورأتنا كعصفورٍ يحاول التحليق بجناحٍ واحد، بدأت تُخلف وعودها معنا، ومع الوقت منعت دخول الكتب وحرمتنا من العلاج وبدأ البعض يتعرض للإهانة بشكلٍ أو بآخر، لكننا لم نكن لنتخلى عن هذا المبدأ بأي حال “لا إهانات … ولا انتهاك لكرامتنا، تمسُكنا بهذا الأمر كان يُشعرنا بأننا مازلنا أحياء، وأن فكرتنا لن تلين أمام عصف رياح المحنة، وأن صدورنا ما زالت تحوي بذرة الخير وأن أجنحتنا قادرة على التحليق أبعد مما يتصورون!

رفضنا استلام التعيين وطلبنا مقابلة المأمور ورأينا أنه من الفطنة بدايةً ألا يحطم الأعرج عكازه على رأس عدوه، إلا أن إدارة السجن أبت إلا ذلك فأضربنا عن الطعام فما كان من مأمور السجن إلا أن أرسل لنا بعضاً من رجاله يحاولون إقناعنا بأن نتخلى عن فكرتنا هذه، وأن نقبل بفكرة السجن، السجن المقيت الذي يقوم على الاستسلام والحرمان، السجن الذي تحدث عنه “فوكو” بأنه (إطلاق لقدرة النظام على التصرف في حرية الشخص ووقته). ألا لعنة الله على السجن إنه موت بشع، ليلٌ طويل يطحنه العذاب والأسى.

تمسَّكنا بمطالبنا واخترنا أن نحطم عكازنا على رأسهم، وكانت قلوبنا وقتها نَدِيّة مطمئنة لأنها تعلقت بالسماء، فالتسليم لله -رب المساكين- هي الطريقة الوحيدة للخروج من الظروف المأساوية التي لا حل لها ولا معنى، القوة التي حلت وثاق القلب ليست عاجزة أن تحل وثاق الكف والقدم

قل إنني من لو تكاد يداه أن تتصافحا مع مستبدٍ لم تطعه أنامله، قل إنني المجنون أُبصر موت حلمٍ رائعٍ وأواصله..”  

فجأة وبدون مقدمات دخل علينا “رجال الستر السوداء” وانهالوا علينا ضرباً بعصيهم وأخرجونا من الزنزانة ووقفنا في آخر الممر أمام الزنزانة الأولى، وقد أرادوا إيصال رسالة مباشرة إلى أهل هذه الزنزانة ففتحوا النضارة (فتحة في باب الزنزانة للتهوية) والتي عادة ما تكون موصدة، ووقفنا أمامهم أعيننا تصارع أعينهم، لم يكن لهم أي رد فعل وقلتُ في نفسي لما وقعت عيني على صورة العجز في عين أحدهم “الحمد لله أني لست واحداً من أهلِ هذه الزنزانة“. 

جُردنا من أمتعتنا كلها وكان هذا يوم الزيارة، فرموا الطعام في ساحة السجن وداسوا كل شيء بأحذيتهم، حتى المصاحف لم تسلم منهم، وفتحوا زنازين الجنائيين وقاموا بتوزيعنا عليها، اثنان في كل زنزانة.. دخلتُ زنزانة جنائي رقم (٣) في صُحبة رفيق هذه الرحلة/ عبد الرحمن شهيب. وبدلاً من أن تصبح هذه الليلة عقاباً لنا صارت مفتاحاً للخير والبشرى فقد استوعبتنا هذه الزنازين كما لم يحدث في غيرها، وبدلاً من أن تصبح زنزانة واحدة “مشاغبة” أصبح السجن كله يهتف في صوت واحد يملأ هذه القلوب السوداء رُعباً وحسرة.

انحاز الجنائي إلينا كعادته فالجنائي عادة ما يحترم السجين السياسي ويقدر قيمة الرفقة الحقيقية في السجن وبدلاً من أن يتعاونوا مع إدارة السجن وينقلوا أخبارنا إليهم كانوا يساعدوننا على المقاومة والتمسك بمطالبنا وينقلون إلى مباحث السجن أخباراً كاذبة فكانوا يخبرونهم مثلاً أننا (مضربون) عن الطعام في حين كنا نجلس معهم للغذاء؛ وذلك لتخويف إدارة السجن

أذكر أن ضابط السجن دخل علينا وقت الجمعة وكنت قد قمتُ لأخطب فيهم الجمعة فسخط بشدة، واستدعى نبطشي (مناوب) الزنزانة الذي قال له (إنهما اندمجا مع أفراد الزنزانة ولا أستطيع منعهما).

وكان من المعتاد يوم الجمعة أن يسمع الجنائيون الخطبة عبر (ميكروفون) لخطيب جاء خصيصاً من قبل السجن

قضينا ليالي من أفضل ليالي السجن بين الجنائيين، وقد حاولت أن أطلب كتب مادة (الفارما) فلم يكن تبقى على امتحاني سوى ليلة واحدة، وصُحبة الكتب ليلة الامتحان عادةً ما تشعرك بالأمان إلا أنني لم أجد ذلك الأمان بعد أن حُرمت من كتبي ليلة الامتحان، تم ترحيلي بعدها بأعجوبة إلى سجن المنصورة لأداء الامتحان ويا ألطاف الله جاء الامتحان من الأجزاء التي مررتُ عليها سريعاً في عربة الترحيلات ونجحت في هذه المادة بتقدير امتياز، وفي الطريق إلى قاعة الامتحان علمتُ أنه سيتم ترحيلي بعدها إلى سجن “ميت سلسيل” وهناك في ميت سلسيل حدث ما حدث ربما أحكي عنه في لقاءٍ آخر.

كما يقول “عزت بيغوفيتش” عن فترة سجنه: “لقد أنقذتني هذه المحنة الكبرى من مئات المحن الصغرى التي كان من الممكن أن تأكلني وتستنزفني شيئاً فشيئاً“.

فلقد حفظتُ القرآن الكريم كاملاً في هذا السجن وذاكرتُ الطب وقرأت في اللغة والأدب واطلعت على أصول الفقه والسياسة الشرعية ودرستُ عِلم العروض والقوافي وأُجزت في متن المقدمة الجزرية في تجويد القرآن واكتسبتُ صداقاتٍ لا تُقدر بثمن

ربما يتكرر هذا المشهد كثيراً داخل السجون، فهناك الكثيرون من الذين ارتضوا أن يسكنوا الزنزانة الأولى.

يبقى أنني لستُ نادماً على شيءٍ آمنتُ به منذ اللحظة الأولى، ويحق لي أن أفخر بما أمضيتُ من سِنيِّ عمري في سبيله، ولن أعلق كثيراً على هذا المشهد فكل ما أريده أن يعلم أبناء جيلي من الشباب عن هذه الفترة التي نعيشها داخل السجون، فلقد علمتني هذه المحنة أن “روائح الجنة في الشباب”، وبدون أملٍ كبير أنني سألقى آذاناً مصغية ومع تأكدي من أن سردي سيتعرض للاضطهاد وبكل ما لديّ للالتزام بهذه القضية من أجل أن أكون شاهداً على هذه الأوقات العصيبة وحتى يعلم هؤلاء السفلة أنني ما زلت هنا، وسأبقى ما بقي السطر وما بقيت، وكل فكرةٍ قيدها كلامي باللفظ حتمٌ عليّ أن أُحرّرها بالعمل، فهذا تاريخ يُسطّر وعلينا أن نحذر “فعندما لا يكتب شعب تاريخه الخاص سيكتبه الآخرون نيابةً عنهم ولكن بطريقتهم الخاصة“. 

ومضيتُ وحدي في الطريقْ

شابٌ تُعانق راحتاه يَد القدرْ

يمضي كحد السيفِ منطلق الأملْ.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها