بين الحاضر والماضي

جميعنا يعي كلمات آبائنا وأجدادنا، أن أيامهم كانت خيراً من أيامنا، وماضيهم أجمل من حاضرهم، وها نحن نُقرّ بما قالوا فنقول: أيامنا في الماضي أفضل من هذه الأيام.

الأمس واليوم والغد: عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه لامرأته: اليوم خير أم أمس؟ فقالت: لا أدري. فقال: لكني أدري، أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة.

جميعنا يعي كلمات آبائنا وأجدادنا، أن أيامهم كانت خيراً من أيامنا، وماضيهم أجمل من حاضرهم، وها نحن نُقرّ بما قالوا فنقول: أيامنا في الماضي أفضل من هذه الأيام.

إذا بما أن الماضي أفضل من الحاضر ومن الأمس، فعلينا أن ندرك أنه لن يأتي يوم علينا (عموماً) بأفضل مما نحن عليه، فبما أننا في كل يوم نقترب فيه من الآخرة، فيعني أن الشرور تزداد بشكل متسارع، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم على شرار الناس، اللهم إنّا نعوذ بك أن نكون منهم.

الحداثة المتوهَمة والحضارة المزيفة: لقد توافدت علينا مبتكرات غربية عجيبة تترا، يدّعي صانعوها أنها وُجدتْ لخدمة البشرية وراحتهم، تسهيلاً في مواكبة هذه الحياة التي تصعب يوماً بعد يوم.

ولا ننكر أن منها ما هو مفيد للبشرية ومسخراً لراحتهم، كوسائل النقل الحديثة، والآلات الثقيلة، وأساسيات المصانع والمشافي وغيرها، ولكن هناك الكثير الجم يبدأ بفكرة خدمة الإنسان، ثم يطرأ عليه مراحل تطور تكسبه شيئاً من التعقيدات التي نحن بغنى عنها.

وهذه المحدثات ما هي إلا بدائل عن البشر، تزحف إلينا لتأخذ مكان الإنسان، وتعطل وجودنا، فإذا بها تدفع المجتمع للتفكك، فترى كل شخص منا منفرداً بنفسه، بعيداً عن الآخرين، متوحداً يهوى العزلة، ويسعى للخلوة فلا يكترث بغيره.

وما أراه مما عايشته وعاينته، أن معظم هذه الابتكارات جاءت لتضييق الحياة، فتخرجها من بساطتها وعفويتها، وتكسبها تعقيداً تلو تعقيد، فتغدو الحياة جاهزة بكل شيء، لا يتعب الإنسان في كسب أي شيء، ولا يجهد في إيجاد أي شيء.
الحركة بركة لغيرنا: فيصبح العمل والجهد والسعي والكسب أفكاراً بائتة متخلفة، لا تحمل معنى الحضارة (برأي أنصار الكسل والخمول) وتصبح حكمة (في الحركة بركة) فكرة أسطورية ليس لها أي وجود في عصرنا الحديث الذي يدعو للنوم والغفلة.

مع أننا نرى أن المجتمعات المتحضرة في العالم السبّاقة في جميع مجالات الحياة، تأخذ حكمة (في الحركة بركة) شعاراً لها، فتدفع شعبها بالسعي والعمل والعلم، فيهتمون بأعمالهم، ويشجعونهم على الإنتاج، حتى صارت دولهم من أوائل الدول المنتجة كاليابان وسنغافورة وماليزيا وغيرها، أما دولنا فتراجعت حتى باتت من أكثر الدول استهلاكاً وخمولاً وتأخراً.
شلل الرفاهية: إن الكلام عن الحداثة والابتكارات يوحي بالرفاهية والترف، بينما يحمل في طياته موتا حتميا لمخلوق اسمه الإنسان، حيث تموت حركته، وتفنى طاقته، ويخمل بدنه، حتى إن خلايا دماغه تبدأ بالتلاشي، ويهزل جسمه حتى يذوب في عالم التكنولوجيا، فتصبح الآلة من أساسيات الحياة، والإنسان هو المستهلِك أو المستهلَك، فلا قيمة له بدونها، بينما ينمو شأنه بمعيتها.

ومن هذه الابتكارات وسائل الإعلام والاتصالات، التي حملت إلينا القليل من الراحة والرفاهية الظاهرة المتوهَمة، بينما تضمنت سرطانات وطواعين وبلاءات فتاكة، بغلاف براق اسمه التطور والتحضر والحداثة.
الدنيا تفتح قلبها لأحبابها: يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسطَ عليكم الدنيا، كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم). وما كان يخشاه نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم نراه اليوم يتحقق عياناً، فوقعنا بشراكٍ نعلمها، وبفخاخ أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم حقيقتها، ولطالما حذّرنا منها.

ها قد فتحت علينا الدنيا، فبُسطت لنا أكثر مما نتصور، فتسلل حبها إلى قلوبنا يوماً بعد يوم، ومن خلال هذا البسط صارت للأمم وثقافاتها قديماً وحديثاً نوافذ مفتوحة ليس لها حارس، معروضة دون رقيب، الاطلاع عليها لا يحتاج جهداً بالغاً منا، ولا أرى المشكلة بالاطلاع، بل الطامة الكبرى بما وراء الاطلاع من ترك ما نحن عليه من الدين والأخلاق والقيم والعادات الحميدة، والانخراط في تبعية عمياء، وتقليد أحمق، وانجرار وراء المجهول.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها