أربعة على رابعة.. حتى تكون المجزرة الأخيرة

فإما أن يؤمن الطرفان بأن أحدهما محتاج للآخر في مرحلة انتقالية، لا بد من مرورها، وإما أن يستعرض كل منهما وينأى بجانبه، ولن يتقاسما حين ذاك غير رغيف الخبز خلف زنازين الجلاد.

باعوا رغيفك والوطن، وأدوا صغارك تحت أكوام القذارة والدياثة والدمن، ملأوا سريرتك النقية بالوساخة والعفن، ستثور، سيشوهونك، يسحلونك يقتلونك باسم أصنام الوطن.

هكذا علقت قبل أعوام أربعة على مقتل أزيد من ألف ثائر بميداني الثورة الثانية رابعة والنهضة بعد ثورة يناير2011، وثورة مضادة في يونيو/حزيران، وانقلاب يوليو/تموز 2013.

اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على “مذبحة القرن”، لم يعد نثر الكلمات كافيًا، ولا إعلان التضامن ناجعًا، بعد ثلاث سنوات ما زال معطي أمر الفض على العرش، والسلاح بأيدي القتلة، والمفوضون يرقصون على الجثث، ولتسلم أيادي الجميع!

بعد سنين أربع لم يعد سوط النقد الذي يشهره البعض في وجه قادة الاعتصام ذا جدوى، فأسئلة من قبيل: لماذا لم يصدر قرار الفك قبيل الفض حين تبدت بوادر الأخير جلية؟ ولمَ أصر الإخوان على بقاء الناس في الميدان، وبنادق الشرطة تشحذ لقتلهم؟ صارت كلها أشبه بجدال عصر الفتنة، من “الضال قاتل عمار بن ياسر” .. من أخرجه أم من طعنه؟ وجوابه أقرب إلى البداهة. وغدا الإصرار على تحميل الضحية جزءًا من المسؤولية فيه كثير من اللاجدوى، وغير قليل من تبرير التخاذل عن النصرة والقومة قبل أن تجف الدماء.

وبالمقابل، فالإصرار على النظرة المأتمية للفض وإلصاق الطابع العاطفي المحض به، لن ينتج شيئًا غير تشييد “حسينية” جديدة، وسرادق عزاء ولطم يدخله المشيعون كل موسم، ليذرفوا دمعًا يغسل المقل ويشفي الغليل، ثم يمضوا إلى واقع النسيان، في انتظار أغسطس/آب قادم، ودمع جديد.

مرت أربع سنين ولا يزال البعض يتحرج من إطلاق لفظة “مذبحة” على ما حصل، ويندى جبينه كلما لمح شارة صفراء تتوسطها كف تصفع ضميره بأصابعها الخمسة، فرابعة ليست جريمة في حق الإخوان ولا المصريين، بل هي مجزرة رصاصها أصاب حلم الثورة العربي، وفكرة الرفض والغضب، واستنكارها لا يلصق بك صفة “الإخوان”، بل يمنحك حق الانتماء إلى بني الإنسان.

مرت ذكرى رابعة، ولابد للثائر العربي اللبيب أن يدون بضع قواعد، وبعض خطوط دفاع؛ حتى لا تتكرر مجزة “رابعة” في ساحة عربية أخرى، وحتى لا يتسلق عبيد “بيادة” آخرون سلم الحكم على جثث الثائرين، وعقول المضللين، وسواعد المتمردين، وحتى لا يبدع المستبدون في توسيع الهوة بين شركاء الثورة.

حتى تكون رابعة آخر مجازر العصر الحديث:

على العرب شعوبًا وقادةً ثوريين أن يعوا أن دولهم، من الماء إلى الماء، تتشكل من تنظيمات سياسية ثلاثة: نظام مستبد وهو الحاكم الآمر الناهي قبل الحراك الديمقراطي، ثم غداة نجاح الثورات المضادة في بضع دول.

الإسلاميون: وتمثل هذا التنظيم تيارات الإسلام السياسي المرتبطة منها بالنواة الأم، جماعة الإخوان المسلمين، أو المستقلة عنها في النشأة والقرار.

القوى المدنية: وتتشكل من التيارات المعارضة غير الإسلامية، من يساريين ثوريين وديموقراطيين، وليبراليين، ولنا أن نطوف الدول العربية جميعها لنتأكد من هذا الثالوث السياسي.

نقر جميعًا بأن الوضع قبل انطلاق حراك 2011، شهد استحواذًا تامًا للنظام المستبد على مقاليد الحكم، وإقصاءه للتنظيمين الاثنين معًا، وما أشبه منفى الغنوشي بسجن أيمن نور، ومنفى المرزوقي، بسجن بديع، وكثيرة هي الأمثلة التي تظهر بجلاء أن النظام المستبد لا يقبل انشطار السلطة، واقتسام التدبير، ولا هم لديه إلا استمرار دولته.

قبيل الحراك الديمقراطي ظهرت بوضوح عوالم الاتحاد بين قطبي المعارضة، ولا أحد ينفي التحالف بين مكوناتها، قادة وأنصارًا، فأشعار نجم اختلطت بحِكم البنا في “تحرير” مصر، وصدع الشابي تمازج بخطب راشد، بحبيب تونس، وذاك دأب غيرها من بؤر الثورة.

وواهن واهم من يدعي أن أحد القطبين، الإسلامي أو المدني، كان قادرًا على إزاحة الحكام من على العروش دون الآخر.

نجحت الثورات، وإن بدرجات متفاوتة، فألقي النظام المستبد، مؤقتًا، في جب أعده لمعارضيه، لكنه سرعان ما استجمع ما تبقى من قوى ليجد مسلكًا إلى كرسي فارقه، فبدأ بخطب ود الإسلاميين، وكان زمن عنفوانهم قد حل، ولا أحد من قياديي التيار المصارحين ينكر ما حدث من تقارب بين المجلس العسكري وإخوان مصر، ما دفع بالتيار المدني إلى دائرة الإهمال، فلم يجد من خيار غير الشارع الذي لم يكد يفارقه.

عاد النظام، حين رأى في الإسلاميين نزرًا من استقواء إلى دوائر التآمر ليطرح بديلًا، فاستغل “تمرد” التيار المدني مِعولًا لهدم صرح حلفاء الأمس، ولنا أن نعود لاعتذارات أعلام هذا التيار، العاجلة والمتأخرة، لنرى كيف تبرؤوا من وضع أيديهم بيد العسكر لتمرير الانقلاب العسكري بغطاء شبه شعبي. لكن النظام عمد بعد الفراغ من ضرب الثائرين بالثائرين، إلى حالة الاستحواذ والشمولية في الحكم والتدبير التي لا يجيد سواها. وللقارئ أن يسقط حال مصر على غيرها من أقطار بلاد العرب، ليلمح تشابه الأحوال، وإن اختلفت التفاصيل.

كي لا تتكرر مأساة رابعة، على قوى الرفض المؤمنة بالثورة أن تتذكر أن البوعزيزي وخالد سعيد لم ينتميا لأحدها، وأن قاتل سيد بلال هو ذاته قاتل جيكا، وأن سجان البلتاجي هو نفسه معتقِل ماهر، فغايته الاستبداد بالحكم، والانفراد بالرأي، ووأد الثورة، والاستئثار بالثروة.

على إخوان مصر أن يعتذروا عن مصافحة العسكر أيام «تقيّة» السيسي، وعلى مدنييها الاعتذار عن «تمردهم» وصمتهم عن دماء الربعاويين والنهضويين ومن سالت دماؤهم منذ انقلاب يوليو. على الإسلاميين العرب إعلان كفرهم بالمستبدين ومن معهم، وعلى مدنييهم كف ألسنتهم عن التحجج بقصور تمرس الإسلاميين.

فإما أن يؤمن الطرفان بأن أحدهما محتاج للآخر في مرحلة انتقالية، لا بد من مرورها، طالت أم قصرت، فيتقاسما إذ ذاك الأمر والحكم، وإما أن يستعرض كل منهما وينأى بجانبه، ولن يتقاسما حين ذاك غير رغيف الخبز خلف زنازين الجلاد، أو أكفان القطن وألحاد المقابر.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها