مصابيح خافتة

كم من خطأ قد تفاقم وازدادا تعقيدا بمجرد تسليط الضوء عليه، وكم من مخطئ انصلح واستقام أمره بالتجاوز والتغافل>

أنوار ساطعة وأخرى خافتة، مصابيح متنوعة نستخدمها في إضاءة علاقاتنا الاجتماعية، فترفدنا بنتائج دقيقة تعكس تباين المعطيات، عن السلوك والشخصيات وقوانين التواصل.
يفاجئك عند زيارة بعض البلدان طريقة تصميم المنازل من الداخل وبخاصة فيما يتعلق بنظام إضاءة الغرف، ولنقل تحديدا ما نسميه غرفة الجلوس أو المعيشة، ذلك المكان الذي صُمم ابتداء لتقضي فيه العائلة أوقاتها معا، لمشاهدة التلفاز، وتناول المأكولات الخفيفة أو مجرد الجلوس وتبادل أطراف الحوارات الباردة والدافئة، ومن اللافت للنظر عدم وجود المصابيح الثابتة تلك التي أعتدنا عليها، المعلقة في الأسقف أو على الجدران، حيث يكتفي أصحاب المنزل بإضاءة خافتة يحصلون عليها من بعض وحدات الإضاءة الصغيرة التي يضعونها في زوايا الغرفة أو على الطاولات الصغيرة هنا وهناك، وقد يستغني البعض تماما عن تشغيلها مكتفين بالضوء الصادر عن التلفاز، على صعيد آخر، تسيطر في الثقافة العربية فكرة توفير إضاءة قوية ساطعة في المنازل ويتبارى البعض في تنوع ألوان وأشكال المصابيح المستخدمة، وبالإشارة الى غرف الجلوس تحديدا، فإنها تحظى عادة بنصيب الاسد في هذه الاضاءة باعتبارها قطب المنزل والمكان الأمثل لتجمع العائلة.

قادني التباين ما بين الثقافات إلى عقد مقارنة ومقاربة في هذا السياق، فلطالما آمنت بذلك الترابط الخفي ما بين جوانب حياتنا المادية والمعنوية في آن واحد، إننا ننتهج في حياتنا أسلوبا ما يتشابه إلى حد كبير مع فكرة المصابيح وتنوع مقدار الإضاءة الصادرة عنها، في تواصلنا الاجتماعي مع العائلة بامتدادها، والأصدقاء والزملاء وكافة المحيطين بنا على تباين المسافات التي تحدد مقدار عمق العلاقة معهم، نعمل على لفت الأنظار نحو سلوك ما أو على العكس، نتغاضى عنه كأن لم يكن، تماما كأن تسلط الضوء على بقعة ما من الغرفة أو أن تكتفي بالحد الأدنى من الإضاءة حولها.

في معرض تكوين الشخصيات وبناء أبرز ملامحها نستطيع ملاحظة تلك الفوارق الواضحة بين أبناء الثقافات والحضارات المختلفة، بعضها ينشئ عنها شخصيات قوية واثقة معتدة بنفسها، ورغم عيوبها وابتعادها عن الكمال تراها تنطلق في الحياة نحو أهدافها التي تريد وتحقق طموحاتها غير آبه بكل الصعوبات والتحديات، وعلى الطرف الآخر يفاجئك ما تنتجه الثقافات الأخرى من شخصيات مهزوزة مقهورة ضبابية تفتقد الاحترام لذاتها ولهويتها، وينقصها الثقة بقدراتها وما وهبه الله لها من ميزات، ومن هنا ينطلق السؤال: لماذا؟ وكيف وصلنا إلى هذه النتيجة المتناقضة ما بين الطرفين؟

يشير العديد من المختصين في موضوعات علم نفس النمو في سياق تعديل السلوك، أن المربي يجب أن يعمل على تعزيز ثقة الطفل بنفسه وأن يرفع من تقديره لذاته على الرغم من جوانب الضعف التي قد يراها المربي واضحة في شخصية الطفل، وعلى الرغم أيضا مما يصدر عنه من سلوكيات خاطئة، وتتمحور الفكرة هنا حول لفت نظر الطفل نحو السلوكيات الإيجابية بالتعزيز المعقول فتطغى على السلوك السلبي، ورفع تقدير الطفل لذاته إلى أن يصل لمرحلة من الاعتزاز بالذات واحترامها بحيث لا يقبل الخطأ من نفسه وذلك ضمن عملية بناء حس المراقبة الذاتية عند الطفل أو ما قد نسميه أحيانا بالضمير.

ولا يقتصر الأمر على العلاقة ما بين المربي والطفل، ببساطة شديدة نستطيع أن نطبق ذات القاعدة على الكثير من علاقاتنا الاجتماعية، علاقة الأزواج، الوالدين والأبناء، الأخوة والأخوات، الأصدقاء، الجيران وهكذا.

يتشابه الأمر إلى حد كبير مع مصابيحنا المنزلية ذات الإضاءة القوية والتي تكشف عن كافة تفاصيل الغرف والمفروشات والأشخاص أيضا، التفاصيل بكل أنواعها، الجميلة والقبيحة، المزايا والعيوب، ماذا إذا خففنا درجة الإضاءة قليلا؟ أو عملنا على توجيهها نحو زاوية معينة من الغرفة بحيث تبرز ملامح الجمال والأناقة فقط مما يبعد العين والقلب عن ملاحظة العيوب والأخطاء؟

في ذات النسق، نستطيع إدراك حقيقة أن تسليط الضوء على السلوكيات السلبية وأخطاء الآخرين سيجعل منها هدفا واضحا للرؤية والانتقاد لكنه لن يقدم مطلقا أية حلول جذرية للتخلص من هذه الأخطاء، حيث لن يتعدى أثره مسألة الإحراج والتوقف المؤقت للشخص المخطئ عن سلوكه، وقد يزداد الأمر سوءا وينتج عن ذلك ردة فعل عنيفة تدعو المخطئ للمعاندة والمكابرة بارتكاب المزيد من الأخطاء.

والتصرف الأجدى هنا هي أن نعمل على توجيه الانظار أو لنقل الإضاءة بعيدا عن السلوك الخاطئ مما يساعد على تحقيق عدد من الأهداف في ذات الوقت، أهمها: الحفاظ على كرامة المخطئ، ربما أنه فعلا قد أخطئ لكنه لم يفقد حقه الطبيعي في حفظ كرامته واحترامه وبخاصة أمام الآخرين.

أما الهدف الثاني فهو إتاحة الفرصة للشخص المخطئ لإعادة النظر ومراجعة الذات فيما صدر عنه، قبل أن يلاحظه أحد، لربما أن الخطأ قد صدر عفوا دون قصد، أو أنه صدر مقصودا في لحظة غضب، وربما المهم هو أن التغافل والتجاوز عن المخطئ يمنحه فرصة ذهبية لتصحيح الخطأ واصلاح ما أفسده التصرف غير المناسب.

هدف آخر أيضا، وهو تعزيز العلاقة أيا كان نوعها ما بين المخطئ والطرف الآخر، شعور المخطئ بمحبة الاخرين واستيعابهم لأخطائه يمنحه إحساسا بالقبول والمحبة ينعكس بشكل تلقائي على سلوكه المستقبلي.

لست ممن ينادي بتغطية الأخطاء الجوهرية أو العيوب الخطيرة وبالمناسبة فإنني لا أعتقد أصلا بإمكانية إخفائها حتى وإن حاولنا ولكنني عنيت تلك الهفوات والاخطاء العابرة والتي تكون في معظمها غير مقصودة.

كم من شخصية نشأت قوية واثقة واعية بجوانب القوة والضعف في ذاتها، وأخرى لم يترك لها الانتقاد والتقريع الدائم إلا الضعف والوهن؟

وكم من خطأ قد تفاقم وازدادا تعقيدا بمجرد تسليط الضوء عليه، وكم من مخطئ انصلح واستقام أمره بالتجاوز والتغافل؟

علاقاتنا الاجتماعية بتنوع درجاتها تستحق فعلا أن نوليها الرعاية والصيانة الدائمة، وفي سبيل ذلك، لربما أنه من الأفضل استخدام إضاءة خافتة تسمح لنا برؤية جمال ومميزات من حولنا كما تتيح للمحيطين بنا رؤيتنا بأفضل صورة عبر مساحات واسعة من الحرية والتقبل.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها