دراما القيد ووهم القيد

سجون بلا جدران ولا قضبان ولا حتى حراس، وهمية هي تلك السجون التي نفرضها نحن على أنفسنا، أسوار عتيدة من العادات والممارسات اليومية، أشخاص مختلفون يحيطون بنا أعتدنا على وجودهم على الرغم من تأثيرهم السلبي على تقديرنا لذواتنا وثقتنا بأنفسنا وانعكاس ذلك على مجريات حياتنا.

عن القيد ووهم القيد أتحدث، من وحي الآفاق الواسعة والفرص الكثيرة التي هدرت خارج دائرة الوعي والإدراك.

بينما كنت أقرا إحدى الروايات البوليسية مؤخرا، لفت نظري أن المؤلفة قد نسجت جزءا كبيرا ومهما من حبكة روايتها في تلك الفترة الزمنية التي قضتها بطلة الرواية تحت مظلة برنامج حماية الشهود، ولمن لم يسبق له الاطلاع على فكرة هذا البرنامج فهو إحدى الوسائل التي تستخدمها دوائر التحقيق في بعض دول العالم أثناء مدة البحث والتقصي في بعض القضايا، حيث يتعين على الجهة المسؤولة تقديم الحماية الكاملة التي تضمن سلامة شاهد ما في القضية ريثما تنتهي التحقيقات ويدان المجرم أو يتم القبض عليه على الأقل، وفي هذه البرامج يتعين على الشاهد أو الشاهدة الانتقال من المدينة التي يقيم فيها إلى مدينة أخرى تبقى مجهولة الهوية بشكل كامل تماما لعائلة الشاهد ودائرة معارفه برمتها حيث يحيا الشاهد في المدينة الجديدة لمدة مجهولة وتتم مساعدته في الحصول على مسكن وعمل بهوية جديدة وأوراق ثبوتية مزيفة لحين الإدلاء بشهادته في المحكمة وانتهاء القضية.

الفكرة مثيرة حقا وبخاصة أنه معظم الكتاب الذين استعانوا بها في مؤلفاتهم سواء أكانت روايات او أفلام سينمائية قدموا هذه الفترة من حياة البطل أو البطلة باعتبارها فتحا جديدا مكنهم من إعادة اكتشاف الذات بالنسبة للكثير منهم، سواء على مستوى العلاقات الشخصية، مجالات العمل، تقويم وتعديل العديد من السلوكيات، اتخاذ وتنفيذ الكثير من القرارات المؤجلة..وهكذا.

وبعيدا عن الحبكات الدرامية التي قد يبالغ فيها الكتاب والمخرجون في بعض الأحيان فإن اللافت في الأمر حقا هو فكرة القرارات الحاسمة والتغيرات الجذرية التي قد يتخذها الإنسان أو يطبقها في حياته بشكل مفاجئ لا لشئ سوى أنه تحرر من روتين حياته اليومي، وانفصل عن كل ما يربطه بحياته السابقة مما يقدم دليلا حاسما أن كافة تلك العوائق المرتبطة بقدراته وإمكانياته الذهنية والنفسية التي يفترض الفرد وجودها في حياته لم تكن إلا قيدا وهميا قد صنعه عقله أو قبل به بتأثير من المحيطين أو الروتين اليومي المستنفذ لطاقته.

قادتني الفكرة إلى المزيد من الاطلاع والتأمل، وباستقراء العديد من تجارب الأشخاص الذين تمكنوا من تحقيق نتائج مبهرة في حياتهم سواء على الصعيد الشخصي أو المجتمعي فقد كان من المهر حقا أن الكثير من تلك الانجازات النسبية التي وصلوا إليها قد ارتبطت بفترات عزلة متفاوتة في مقدارها قد فرضوها هم على أنفسهم حسبما اقتضت الحاجة أو فرضت عليهم لسبب من الأسباب.

ومن تلك الأمثلة لذلك النوع من العزلة الاختيارية ما أورده الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله في سيرته الذاتية عبر صفحات كتابه (رحلتي الفكرية) عن قصة اتقانه وامتلاكه لناصية اللغة الإنجليزية حيث إنه قد فرض على نفسه عزلة اختيارية في إحدى غرف منزله لمدة شهر كامل لم يقرأ فيها إلا الصحف والمجلات الإنجليزية ولم يستمع خلال تلك المدة إلا للإذاعات الناطقة باللغة الإنجليزية فقط، سرعان ما مضى ذلك الشهر كما هي الشهور تمضي مسرعة في حياتنا، ولكن الفارق في الإنجاز هو ما جعله مميزا مختلفا يستحق الذكر والتوثيق.

ولا شك في أننا محاطون بالعديد من الأشخاص الذين قدموا لنا من وقائع حياتهم أمثلة حية لهذا الأمر، إحدى الصديقات القديمات أمضت عدة سنوات من حياتها عملت فيها على إتمام كتابة مؤلف بحثي لها لكنها لم تستطيع حقا إتمام الأمر والوصول إلى النتيجة المرضية لأبحاثها تلك إلا بعد اكتشافها بأنها مصابة بمرض السرطان في مرحلة متأخرة منه مما فرض عليها عزلة إجبارية عن كافة المحيطين بها حيث اقتصرت علاقتها مع الدائرة الأولى الصغيرة فقط من العائلة وأزاح السرطان عن كاهلها أعباء اجتماعية كبيرة كانت قد فُرضت عليها مسبقا كنتيجة منطقية للأسرة الكبيرة الممتدة وارتباطاتها الاجتماعية المتداخلة، ومن ثم أزاحت هي بمتعة الإنجاز والنجاح ذلك المرض من جسدها وتجاوزت المرحلة بإتمام مؤلفها وشفاءها ولله الحمد.

الانفصال المؤقت عن المؤثرات التي تفرض نفسها علينا سواء أكانت أشخاص، عادات يومية، ارتباطات اجتماعية، كفيل بأن يتيح لنا مجالا واضحا لا غبش فيه لرؤية عميقة وإدراك واع لواقع قدراتنا وامكانياتنا الحقيقية التي أودعها الله فينا.

إن إعادة النظر بموضوعية تامة تمنحنا فرصة ذهبية للتمييز فعلا ما بين القيد ووهم القيد، ولا ضير من عزل أنفسنا بإرادتنا التامة متى احتجنا لذلك، عزلة عن كل من يقف عائقا أمام تقدمنا بآرائه السلبية وانتقاداته الدائمة، عزلة عن كل ما اعتدنا عليه من ممارسات يومية نتوهم بحاجتنا اليها وعدم قدرتنا على العيش بدونها ولا يخفى عليك عزيزي القارئ مقدار الاستنزاف غير المنتهي لرغباتك وطاقاتك من هذا التعايش مع هذه الأمور والذي قد يصل في نهاية الأمر إلى وأد الرغبة تماما في نفسك لعمل أي شيء أو التحرك نحو أي هدف أيا كان.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها