الرحيل الأنيق (3)

منذ عشرين عاما…

في التنقل والسفر يتعلم الإنسان أشياء كثيرة ولا أعده ضربا من المبالغة إن قلت أنه في بعض الأحيان يعاد تشكيل وصياغة الشخصية بأكملها كنتيجة مباشرة لهذه التجارب، إلا أنه من المهم ملاحظة الفرق ما بين السفر كسائح لعدة أيام وما بين السفر والإقامة في مكان ما.

يظهر الفرق جليا ما بين التجربتين، ففي الأولى يسافر السائح ليرى الجوانب الإيجابية والأفضل في كل شيء في المكان، أفضل الفنادق أو أماكن الإقامة المتاحة، أفضل المطاعم والاستراحات، أجمل المعالم السياحية سواء أكانت طبيعية أم تاريخية أو مزارات دينية وغيرها.

على الصعيد الآخر، عندما تنتقل للإقامة في مكان جديد يختلف الأمر كليا، ويعاد ترتيب الأولويات مجددا لتتناسب مع طبيعة الهدف والدافع من الانتقال سواء أكان ذلك قسريا أو بمحض الإرادة والاختيار.

وأنت يا سيدتي، كي تكتمل تجربتك في المكان والزمان الجديدين لابد لك أن تخرجي من الإطار الضيق الذي قد يُـفرض عليك في أحيان كثيرة.

تنشأ الفتاة في مجتمعنا العربي عبر منظومة اجتماعية ضمن قيود ومحددات في التعامل مع الاشياء والناس من حولها وينشأ عنها عادة فتاة أو سيدة غير مستقلة بذاتها، فهي دائما بحاجة إلى من ينوب عنها أو يكون معها في أحسن الأحوال، وترى ذلك بوضوح عند إتمام بعض المعاملات الرسمية مثلا، أو حتى بعض مجريات الحياة اليومية (تختلف هذه المحددات من دولة إلى أخرى ولكنها تتفق إجمالا على المبدأ نفسه وهو عجز المرأة على الاستقلال التام بذاتها وشؤون حياتها).

ويزداد الأمر ظهورا عندما تنتقل الأسرة إلى مكان جديد، ربما بداعي المحبة والخوف والحرص، أو التسلط في ظروف أخرى.

لذلك كله أقول لك يا عزيزتي عندما تسافرين وتنتقلين إلى مكان جديد لا تدعي غيرك ينوب عنك في التجربة، التجربة هنا هي الحياة الحقيقة، بصرف النظر إن كان هذا الشخص أبا أو أخا أو زوجا أو حتى ابنا، أطلقي العنان لنفسك كي تخوض تجربة مكتملة الأركان لجني الفائدة الحقيقية من هذه الخبرة.

خروجك إلى الحياة الجديدة لابد أن يكون فعليا وليس في العالم الافتراضي فقط على مواقع التواصل الاجتماعي، وسواء أكنت عازبة أم متزوجة، سيدة عاملة أم ربة منزل، لابد أن تفسحي لذاتك المجال لتتعايشي مع الواقع المحيط بكل معطياته النسبية.

واعني بذلك تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة، العادية والمثيرة، ما تظنينه مهما أو غير مهم، ذهابك للدراسة وطلب العلم تجربة، حصولك على فرصة عمل مناسبة تجربة غنية تستحق العناء، اصطحابك أبناءك إلى الطبيب تجربة، ذهابك إلى مدرسة أطفالك تجربة، خروجك للتسوق وقضاء احتياجاتك تجربة، التواصل مع الجيران تجربة أخرى، قد يبدو الأمر بديهيا عند البعض، ولكن الحقيقة التي رأيتها ان كل هذه الأمور التي قد تبدو أنشطة يومية عادية جدا عن بعض السيدات هي في الحقيقة مهام شاقة ترفض أو تعجز الأخريات عن القيام بها وخاصة عندما تكون في بلد آخر، وتزداد المسافة أكثر في حال اختلفت اللغة في المكان الجديد.

من الجميل أن يشعر الإنسان أن هناك من يمكنه الاعتماد عليه في الحياة، ولكن دعينا نفرق بين أن اعتمد على الآخرين سندا وعونا عند الحاجة وبين أن اتركهم يحيون بدلا عني.

في إحدى دورات اللغة الإنجليزية التي التحقت بها قبل سنوات في أمريكا، التقيت بالعديد من الزملاء والزميلات من كل أنحاء العالم ومن مختلف الأعمار والثقافات، جمع بيننا فقط أمران، الأول: أننا تقريبا نتحدث اللغة الإنجليزية بنفس المستوى أما الثاني فهو رغبتنا بتطوير أنفسنا وتحسين مهارات التواصل مع العالم المحيط بنا.

العجيب في الأمر أنني التقيت هناك بإحدى السيدات، بادرتني بالسؤال: منذ متى أنت هنا في أمريكا؟ أجبتها بأنني وصلت قبل شهر ونصف تقريبا وكنت أنتظر موعد بدء الدورة للالتحاق بها، وعندما رددت عليها السؤال أجابت بأنها هنا في أمريكا منذ عشرين عاما، نعم عشرين عاما وهذه هي المرة الأولى التي فكرت فيها أن تنتسب ببرنامج تقوية اللغة الإنجليزية، اعترتني الدهشة في حينها؟؟؟ هل كان من الحكمة الانتظار عشرين عاما للأخذ بزمام المبادرة أخيرا.. وبغض النظر عن كل المبررات التي يمكن للمرء أن يسوقها، هل ثمة ما يعوض عن عشرين عاما من العزلة عن مجتمع ما والاقتصار على التعامل مع من شاركوها لغتها فقط.

لم تدرك تلك السيدة هذه الحقيقة إلا عندما كبر الأبناء والبنات الذين شغلت نفسها بهم وأصبحوا هم أداة الضغط عليها لتعلم اللغة الإنجليزية فقد باتوا يشعرون بالخجل من لغتها الركيكة.

فلنتخيل أي نوع من التجارب هذه التي ينكفئ المرء فيها على نفسه بلا تواصل ولا تفاعل مع الجو المحيط، وأية نتائج سوف تسفر عن هذه التجربة، وأي خسارة مترتبة على ذلك.

والحديث يطول عن مثل هذه الأمثلة والقصص والتجارب، من أجل ذلك يا عزيزتي أقول لك عندما تتاح لك الفرصة بالبقاء في المكان، أي مكان، فترة ما من الزمن لا تدعي الفرصة تفوتك، اكتسبي من الخبرات الاجتماعية والثقافية والفكرية كل ما تستطيعين ولا تتدخري جهدا في المتاح من ذلك.

عيشي تجربتك بأركان مكتملة، تواصلي وتفاعلي وتذكري أن هذا الوقت سيمضي وسيبقى منه فقط نتائج التجربة التي اختبرتها بنفسك قولا وعملا.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها