أنا يا نفسي إليك مشتاق

لابد أن نتعلم أن الحياة عميقة وليست مجرد مشاهدات، ولو أردتموها مشاهدات فشاهدوا ماذا يدور بداخلكم واستمعوا إلى أنفسكم وتحدثوا إليها

 جرس المنبه يعلن عن حلول الساعة السادسة صباحاً، فتحت الزوجة عينيها وأخذت توقظ الزوج الذي يغط في نوم عميق، هذه هي حالته كل يوم يتأخر في النوم ويحتاج لوقت طويل لكي يستيقظ.

بعد أكثر من عشر دقائق من المحاولات استيقظ متكاسلاً واستعد للذهاب لوظيفته بينما هي تعد وجبة الإفطار

عادة ما يسهر لساعات متأخرة من الليل ممسكاً بهاتفه متابعاً تلك السنابات الخاصة بالفنان الفلاني واللاعب الفلاني والانستغرامات الخاصة بفلان وفلان وفلانة، يتصفح الفيسبوك ويرى ما فيه من مستجدات وإن لم تكن مستجدات فلا بأس بالشات مع بعض الأصدقاء أو في المجموعات. ساعات تمضي وهو على هذه الحال، لم يمض على زواجهما ستة أشهر، ومع ذلك يعيش في عالمه الخاص وفي ذلك العالم الافتراضي الذي أصبح الملايين عبيداً فيه، على أرض الواقع هو يرى أنه يقوم بدوره كاملاً دون نقصان كزوج ورب أسرة.

بعد أكثر من عشر دقائق من المحاولات استيقظ متكاسلاً واستعد للذهاب لوظيفته بينما هي تعد وجبة الإفطار وقد استعدت للذهاب للمدرسة فهي معلمة في صفوف المرحلة الإعدادية، خرجا سوياً لكي يوصلها، لم يتحدث نهائياً سوي بكلمة (يلا) عند وصوله إلى مكان عملها بينما هي كانت ترتب أوراقها ودفاترها استعداداً ليومها.

استلقت على الأريكة بعد الانتهاء، حان الآن موعد الرحلة اليومية بالنسبة لها للتحليق عبر منصات التواصل الاجتماعي

في الظهيرة عادت منهكة، مع ذلك وقفت لأكثر من ساعتين في المطبخ لتجهز طعام الغداء، استلقت على الأريكة بعد الانتهاء، حان الآن موعد الرحلة اليومية بالنسبة لها للتحليق عبر منصات التواصل الاجتماعي متابعة فلانة وفلان، تبحث عن كل ما يقال عنهما عبر منصات التواصل وما يضعانه من أخبار وأفلام ورسائل، تعرف كل تفاصيل الفنانة الفلانية والفنان الفلاني حتى أدقها، فخورة كونها مرجع للأخبار، يسألها أقرباؤها عن الفنانة فلانة فتعطيهم الأخبار وتسترسل، تلك الفنانة ستقدم مسلسلا جديدا في الموعد الفلاني، وفلانة قد اشترت بعض المجوهرات من الماركة العالمية المعروفة بمبلغ وقدره كذا وكذا، أما فلان فقد تناول وجبة سريعة في المطعم الفلاني.

جميل أن نتابع ونناقش ونراقب ما يدور حولنا، ولكن هل سألنا أنفسنا ولو مرة: من منا يتابع نفسه؟

كل شيء نعرفه عنهم، حياتهم مكشوفة بالنسبة لنا نراها ونتفحص فيها كما نريد سواء استفدنا أو لم نستفد، معظمنا يفعل ذلك فأخبار المشاهير والنجوم تهمنا كثيراً ويهمنا متابعتهم ومتابعة كل شيء عنهم، الرجال يهتمون ببعض الأمور الخاصة بهم ككرة القدم وأخبار الرياضة والرياضيين بينما النساء يتابعن الأمور الاجتماعية والفن وأهله وبالطبع المسلسلات وما يتعلق بها ولو أننا الآن في زمن اختلفت فيه المعايير وانقلبت فيه الموازين.

جميل أن نتابع ونناقش ونراقب ما يدور حولنا، ولكن هل سألنا أنفسنا ولو مرة: من منا يتابع نفسه؟ سؤال محير فعلاً، وقد يكون صدمة للبعض ومدعاة للتساؤل: كيف نتابع أنفسنا؟ نحن نمتلك كل منصات التواصل لنتتبع أخبار فلان وفلانة وكل شيء حولنا إلا أنفسنا فمنصات التواصل تعتبرنا مجرد رموز وتكتفي بذلك فنحن: أعجبني ـ تعليق ـ أتابع ـ أتفاعل ـ أغرد وأعيد التغريد، ننقسم إلى قسمين “مشاهدون ومتابعون” وهذه هي الغالبية العظمى وبالطبع لا يهم ما نتابع ومن نتابع المهم أننا نفعل ذلك، أما القسم الآخر فهم الذين يوظفون هذه المنصات لإشغال الناس وأنفسهم، تابعوني أنا في الحمام، سأنزل الخبر على الانستغرام، لقد اشتريت زوجين من الحمام، كنت أمشي وحرقت رجلي بمكينة اللحام أي كلام وأي شيء ونحن نتابع بحرص شديد كل ذلك ، كل الأخبار والمواقف جيدها والرديء منها محلياً ودولياً وعالمياً، نتابع بدقة بالغة ونختص البعض منها ومنهم فهي المفضلة لدينا وهم من نهتم بهم، أما تلك الأشياء التي بداخلنا فلا نراها ولا نسمع عنها بل حتى أننا نكاد نكون لا نعرفها.

لا نستمع إلى حديث أنفسنا مع أن حديثها جميل ونحتاج إليه كما تحتاج إليه منا

نعم لقد وصلنا لدرجة أننا نسينا أنفسنا، كم من مقاطع مرئية شاهدنا؟ وكم من السنابات تابعنا؟ انستغرام وفيسبوك وتويتر وكل شيء.

نشاهد ونتابع كل يوم ما يدور حولنا دون وعي منا أو تفكير بقيمة أنفسنا، نعرف كل شيء عن بعض الأشخاص ونتابع تصرفاتهم وأحاديثهم وماذا سيفعلون وكيف يتكلمون وماذا سيلبسون بينما أنفسنا مهملة، لا نستمع إلى حديث أنفسنا مع أن حديثها جميل ونحتاج إليه كما تحتاج إليه منا، نعم حديثها مهم، هي تتحدث إلينا دوماً ولكننا لا نصغي ولا نريد، ما تهمنا تلك الأشياء التي لا نستفيد منها، أما ما يفيد فهو عنا بكل تأكيد بعيد وبعيد جداً.

هل لو صنع الصانعون منصات تواصل لذواتنا بحيث تخبرنا عما يدور في أعماقنا وتغرد بما تريد التغريد به أو تعرض علينا مقطع في السناب شات عما يتعبها أو يرهقها أو يفرحها ويسعدها، هل كنا لنستمع؟ هل كنا لنتابع؟ هل كنا لنهتم بتلك الأخبار أم أنها ستكون عقيمة مملة كأشياء كثيرة في حياة بعضنا، فكم من الكلمات التي نسمعها والتي تعبر عن حال بعضنا: ملل، زهق، كآبة، فراغ، روتين.

لابد أن نتعلم أن الحياة عميقة وليست مجرد مشاهدات، ولو أردتموها مشاهدات فشاهدوا ماذا يدور بداخلكم 

كلمات ومصطلحات بالعشرات تعبر عن حال البعض ومع ذلك لا نهتم الا بقتل الوقت مع أنه لا يموت، نحن من نموت ونحن من نقتل أنفسنا بالبحث عن أخبار فلان وفلانة فقط وهذه هي الحياة ونعيمها بالنسبة إلينا، فلنقف مرة ولنفكر ماذا سيضيف إلينا معرفة أخبار أحدهم؟ إن كانت هناك إضافات إيجابية مفيدة فلا بأس بالمتابعة بل على العكس لابد للجميع أن يفعلوا ذلك، ولكن أن نتابع ولا جديد في أنفسنا ولا تطوير ولا تغيير، نتابع من أجل المتابعة وقضاء الوقت أو القضاء عليه فهذا أمر سلبي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وهو بالتأكيد مرفوض، في حصص التدريب يضعون أمامنا كوبا نصفه ممتلئ ونصفه بالتأكيد فارغ ويسألوننا ماذا ترون في الصورة؟

البعض يقول أرى النصف الممتلئ فيقولون له أنت إيجابي ، والبعض الآخر يقول أرى النصف الفارغ فيقولون له: لا أنت سلبي.

ليست هذه هي الحياة وليست الحياة أن نرى الإيجابيات والسلبيات فقط فنحن نعرفها ونراها ونسمع عنها، الحياة أن نرى الصورة كاملة نرى الكأس وشكله ومادة صنعه وما يحتويه وكيفية الاستفادة مما بداخله وكيفية تعبئة النصف الفارغ بما نريد، لا بد أن نتعلم أن الحياة عميقة وليست مجرد مشاهدات، ولو أردتموها مشاهدات فشاهدوا ماذا يدور بداخلكم واستمعوا إلى أنفسكم وتحدثوا إليها فهي أهم من كل شيء، هي الطريق للعيش بشكل سليم، هي الحصان الرابح الذي نحتاجه للفوز، هي أشياء كثيرة أكثر مما تتخيلون، اعطوها بعض الوقت واستمعوا لتغريداتها وستجدون أنها سعيدة بقربكم منها وسعيدة بالتواصل معكم، ستخبركم كم تألمت من طول البعاد وكم هي تشتاق إليكم وتتمنى أن تحيطوها برعايتكم ، لا تكتفوا بإعطائها لايك فكل الأشياء مطلوبة معها، تابعوها وستجدونها قد انطلقت بكم، ستكون لكم عوناً دوماً لتصل بكم إلى ما تريدون، ستكون ملهمة لكم ومعلماً ورفيقاً دائماً، ابحثوا عنها بهاشتاج “أنا يا نفسي إليك مشتاق”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها