التغلب حالة استثنائية يجب إزالتها (4)

السيسي وسط وزيرالدفاع ورئيس أركان الجيش المصري

الأصل في التغلب الحرمة، والقائم به موصوف بأشد أوصاف الإثم والجرم، وأقوال العلماء على حرمة هذا الصنيع.

يقول الجويني في (الغياثي): وغائلة هذا الفصل في تصويره، فإن الذي ينتهض لهذا الشأن لو بادره من غير بيعة وحاجة حافزة، وضرورة مستفزة، أشعر ذلك باجترائه، وغلوه في استيلائه، وتشوفه إلى استعلائه، وذلك يسمه بابتغاء العلو في الأرض بالفساد.

ثم يؤكد الجويني على عدم جواز العقد لهذا المتغلب الفاسق فيقول: ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق، وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت، فاستمسك بعدته محاولا حمل أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا أيضا من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق. ((غياث الأمم في التياث الظلم/ ص327)).

ويحكم ابن حجر الهيتمي على المتغلب بالفسق واستحقاق العقاب فيقول: المتغلب فاسق معاقب لا يستحق أن يبشر ولا يؤمر بالإحسان فيما تغلب عليه بل إنما يستحق الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله. ((الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (2/ 627))).

وهذا يعني أن التغلب:

1-       ظلم، وصاحبه ظالم.

2.      فسق، وصاحبه فاسق.

3.      غشم، وصاحبه غاشم.

4.      إفساد، وصاحبه مفسد فاسد.

5.      صيال وتطاول، وصاحبه صائل متطاول.

6.      إثم ومعصية، وصاحبه عاص آثم.

7.      كبيرة، وصاحبه يستوجب القتل.

هذا في المتغلب قديما، أما المنقلون الجدد فقد جمعوا إلى ما سبق خيانة وعمالة وخسة ونذالة ومحاربة دين الله.

لماذا أقرّ العلماء حكم المتغلب؟

وقد أقرّ العلماء بهذه الطريقة اضطرارا من باب الحرص على وحدة الأمة والخوف من سفك الدماء، قال ابن بطال: والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء.  وقال في موضع آخر: والفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم فى الأغلب، فإن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء. ((شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 8)).

وهذا من باب درء المفسدة العظمى بالمفسدة الأدنى، يقول صاحب (الغياثي): إذا ثار لحاجة (أي من يحاول التغلب)، ثم تألبت عليه جموع لو أراد أن يتحول عنهم لم يستطع، وكان يجر محاولة ذلك عليه وعلى الناس فتنا لا تطاق، ومحنا يضيق عن احتمالها النطاق، وفي استقراره الاتساق والانتظام، ورفاهية أهل الإسلام، فيجب تقريره كما تقدم… والمختار أنه وإن وجب تقريره، فلا يكون إماما، ما لم تجر البيعة. ((غياث الأمم في التياث الظلم/ ص 327)).

شروط يجب تحققها في المتغلب:

وحين أقر العلماء بحكم المتغلب اشترطوا شروطا وهي:

1.  ألا يكون التغلب على حاكم شرعي حي، فمتى كان الحاكم حيا فلا تغلب، بل هو بغي، فإن سفك الباغي دما وروع آمنا، وأخذ مالا؛ فهو محارب، وقد أقرّ العلماء بأن التغلب على الحاكم الحي لا يجوز إلا إذا كان الحي متغلبا على الحكم قال صاحب (مغني المحتاج): أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحي متغلبا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إماما ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه.

2.  أن تعجز الأمة عن إزالة هذا المتغلب لعدم قدرتها، فترضى بذلك واقعا مفروضا، وارتكابا لأخف الضررين، قال ابن قدامة: ولو خرج رجل على الإمام، فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا بطاعته، وبايعوه، صار إماما يحرم قتاله، والخروج عليه؛ فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير، فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعا وكرها، فصار إماما يحرم الخروج عليه؛ وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم.. ((المغني لابن قدامة (8/ 527)).

3.  استجماع المتغلب لشروط الإمامة، فليس كل متغلب يقبل تغلبه مهما كانت أوصافه، قال صاحب كتاب: (الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار): فإن لم يكن هناك إمام فقام رجل له شوكة وفيه شروط الإمامة فقهر الناس بالغلبة فأقام فيهم الحق، فإن إمامته تثبت وتجب طاعته والدخول تحت حكمه، لأن المقصود قد حصل بقيامه، إلا إن قهره من هو بمثل صفته وصارت له الشوكة والغلبة فإن الأول يخلع ويصير الثاني أولى بالطاعة لما ذكرنا في الأول. وعليه فإن الإمامة أو الرئاسة لا تصح لمتغلب لم يستجمع الشروط، كأرعن طائش، أو مستبد جاهل، أو أحمق عربيد، أو عسكري أحمق.

4.  مبايعة الأمة للمتغلب، إذ الحكم عقد يتوقف على إعماله من كلا الطرفين، قال ابن خويز منداد: ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة، والله أعلم ((تفسير القرطبي (1/ 269)). وقال الماوردي: وذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن إمامته لا تنعقد إلا بالرضا والاختيار، لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له، فإن اتفقوا أتموا؛ لأن الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد ((الأحكام السلطانية/ ص 28)).

5. تحقق الغلبة له بالسيطرة على مقاليد الحكم في الدولة، نقل أبو يعلى عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم؛ مع من تكون الجمعة فقال: تكون الجمعة مع من غلب. واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة. وقال: نحن مع من غلب… ((الأحكام السلطانية/ ص 23)).

6.سعيه لتطبيق الشرع والعمل على تحقيقه، قال ابن حجر في الفتح: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر ” مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ” وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته… ((فتح الباري (13/ 7)). وقال ابن بطال: وأهل السنة مجمعون على أن المتغلب يقوم مقام الإمام العدل فى إقامة الحدود وجهاد العدو، وإقامة الجمعات والأعياد وإنكاح من لا ولى لها…. ((شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 125)).

الإقرار بحكم المتغلب حالة استثنائية:

والإقرار بحكم المتغلب ليس باعتبار جوازه ابتداء، وإنما على اعتبار أنه حالة طارئة، وعلى هذا فالاستيلاء على الحكم بالقوة والقهر (حالة استثنائية غير متفقة مع الأصل الموجب لكون السلطة قائمة بالاختيار)… (الفقه الإسلامي وأدلته/ وهبة الزحيلي (8/ 291))، وهذا يعني أن (سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة تنفذ بالقهر وتكون أدنى من الفوضى)… ((الخلافة/ محمد رشيد رضا/ ص 45)).

الفقهاء يقررون أن إزالة حكم المتغلب واجبة:

وإذا كان الفقهاء أقروا -لظروف ما وأسباب ما- بإمامة المتغلب الجامع لشروط الحكم والإمامة؛ فإنهم لم يقف بهم رأيهم عند هذه القرار، وإنما دعوا إلى محاولة تغيير هذا الوضع الاستثنائي، بل الواجب على الأمة أن تسعى إلى إزالة هذه الآلية (عند الإمكان، ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلبين يتقاذفونها ويتلقونها)… ((الخلافة/ محمد رشيد رضا/ ص 45)). ويقول السنهوري: أما إذا كان في استطاعة الأمة أن تعيد الحق إلى أصحابه، وإقامة الخلافة الصحيحة الملتزمة بالشرعية، فيجب عليها ذلك دفاعا عن ذلك الحق… ((الخلافة/ محمد رشيد رضا/ ط الزهراء للإعلام –القاهرة/ ص 45)).

خلاصة القول في حكم المتغلب:

وخلاصة القول في المتغلب أذكره فيما يلي:

1.      أن الأصل في البغي الحرمة، وصاحبه فاسق ظالم جائر فاسد مفسد غاشم.

2.      أن الإقرار بالتغلب حالة استثنائية طارئة، يجب إزالتها وعدم الرضا بها عند التمكن.

3.      أن الاستيلاء على الحكم بالقهر والغلبة هو نوع من أنواع الاستبداد.

4.      أن أخذ الحكم قهرا هو خرم لأهم مبادئ الحكم في الإسلام وهو الشورى.

5.      أنه إذا كان طلب الإمارة دون قهر أو غلبة غير مقبول، فكيف بمن طلبها بالسيف والسلاح.

6.      وإنما المتغلب كما ذكره الفقهاء وأعطوه صبغة شرعية استثنائية هو: المستولي على الحكم لحاجة ملحة، مع توفر شروط الإمامة فيه، واستقرار الأمر له، بعد أن أقام الشرع بإقامة الجمعات والجهاد.

7.      أنه لا تغلب على حاكم شرعي مختار، وإنما التغلب في وقت فراغ، أو على حاكم متغلب.

8.      تغلب متغلب جديد على مثله يُقر، لأن الأول لص والثاني مثله، وإقراره من الأمة للضروة والمصلحة.

9.      أن التجرؤ على أخذ الحكم قهرا وغلبة يجعل البلاد كلأ مباحا، والعباد حمى مستباحا، فيهلك بذلك الحرث والنسل كما هو مشاهد في كل من تغلب على الحكم.

10.    خلو عقد الحكم بين الرعية والحاكم من التراضي، لأنه حتى وإن تمت البيعة للحاكم فيما بعد فإنما وقعت اضطرارا لا اختيارا.

11.    وإذا كان الحكم بولاية العهد لا يأخذ صفة الرشد، فإن الحكم بالقهر والغلبة لا يأخذها كذلك، وإنما هو حكم ناقص ناقص ناقص.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها