ثورة تحتضر في صمت

تغيب معاناة الثورة الليبية وسط ضجيج الأخبار القادمة من العواصم العربية، رغم مؤامرات العسكر عليها ممثلين في خليفة حفتر.

بعيدا عن ضوضاء السّيسي التي ما انفكًت ترتفع مع كلّ خطاب وكلّ كلمة وكلّ حركة لقائد الانقلاب العسكريّ في مصر، أول الجناة في قضيّة اغتيال الثّورة المصريّة مع سبق الإصرار والتّرصّد، بعد أن استعان بساكن “التّويتر” والمغرّد الأعظم محمد البرادعي إضافة إلى صاحب المركز الثّالث في جميع الإنتخابات وكلّ المسابقات حمدين صبّاحي وبعد أن فرش له المتمكّن من لغة الضّاد وصاحب الصّوت الأنيق الطّريق إلى ثلاثين يونيو.

بعيدا عن حكايا سوريا الحزينة وبطولات شعبها جوّا وبحرا وبرّا، بعيدا عن عماراتها المهدّمة وشوارعها الخالية وأراضيها المغتصبة، بعيدا عن جثث أطفالها المنثورة على شواطئ اليونان، بين أكوام الثّلوج وتحت أنقاض المنازل، بعيدا عن قصص المعتقلات الموحشة والمقابر الجماعيّة باسم القضيّة الفلسطينيّة، وعن أساطير المقاومة وأكاذيب السّيادة الوطنيّة وأحداث المؤامرة الكونيّة والصّواريخ الرّوسية وصور الذّبح والحرق والملابس البرتقاليّة.

بعيدا، بعيدا عن جائزة نوبل للسّلام وعن اتّحاد الشّغل والرّباعي الرّاعي للحوار وحكومة التّكنوقراط والنقاشات حول مشاركة الأمنيّين في الانتخابات..

غير بعيد عن بنقردان وبطولات أهلها في صدّ هجمات الدّواعش، دواعش السّكين والقلم..

بعيدا عن الشّقوق التي سرت في أجسام الأحزاب فقطّعت أغلبها إربا إربا، وبعيدا عن ازمة عودة الإرهابيين من سوريا وكتيبة محمّد البراهمي.

بعيدا عن الفشل المسرحيّ الذي عبر القارّات وكاد أن يطيح بوزير إعلام دولة الكويت..

بعيدا عن جلسات الاستماع إلى ضحايا نظام السّابع من نوفمبر وصرخاتهم المرتعشة..

بالكاد تصلنا أنّات ثورة مظلومة إعلاميّا حيث لم تحظَ بربع الاهتمام الذي أوكل إلى ثورة يناير المجيدة ولا إلى الأضواء التي تسلّط على أولى ثورات الرّبيع العربي، الثورة التّونسية، ولم تكسب تعاطفا كذلك الذي تنعم به الثورة السورية..

تصلنا آهات تلك الطّالبة المصريّة من وراء جدران سجون العسكر، وتلهب حماسنا النّيران المشتعلة في جنوب تونس وشمالها مع كلّ احتجاجات شعبيّة، ونبكي لبكاء أمّ سوريّة، ونحزن لباريس ولبلجيكا ولكندا ونتعاطف حتّى مع الثّورة الرّومانية.. كلّ هذا ولا تصلنا اخبار الثّورة الليبيّة..

لا نكتفي بهذا الظّلم في حقّ شهداء 17 فبراير والتّنكّر لدماء أسالها العقيد القذّافي كلّ ذنبها أن طلبت الحرّية ورفضت الدنيّة بل نتمادى كتمادي صحفيي تونس في تشويه الثورة السّورية لنتساءل ونستغرب قيام الثّورة الليبية..

فكثير منّا يحدّث نفسه أن الشّعب الليبيّ لم يكن محروما من شيء، بل إنّه من أغنى الشّعوب العربيّة وينعم بعيشة مرضيّة، فأموالهم في عهد الدّيكتاتور الأخضر نسبة الى كتابه طائلة ومقدرتهم الشرائية مرتفعة.. لا يقفون صفّا صفّا من أجل رغيف خبز لا يسمن ولا يغني من جوع كذلك الصّفّ الذي يشقّ طرقات مصر، ولا تؤرقهم فواتير الماء والكهرباء كتلك التي تنقض ظهور مواطني الطّبقة المتوسّطة في تونس، ولا حتّى ينبشون بين اكوام الفضلات فوق أرصفة الشوارع بحثا عن فتات أكل كما يحدث في مناطق سوريا المنسية.

ونتناسى أنّ شعبا بأكمله قد غنّى أن سنبقى هنا حتّى نعيش الحريّة وسحقا ليد القذّافي السّخيّة، أن انتخاباتٍ ديمقراطيّة، أن الموت ولا حياة الجاهليّة، أن الكرامة قبل بطون مملوءة وحناجر مرتوية، أن الثّورة ولا آبار النّفط الملعونة.

في هدوء، تقترب ذكرى أخرى للثورة الليبية المنسية وهي تحتضر بين يدي حفتر بعد أن شوّهت جسمها رصاصات جيشه ولم يحظ خليفة الدّيكتاتور بزخم اعلامي كالذي يرافق عبد الفتّاح السيسي رغن أنّه لا فرق بينهما، فكلاهما قدما من المدرسة العسكرية وكلامها يمقتان مصطلح الحريّة وكلاهما يدوسان الجثث من أجل الرّئاسيّة.

فتحيّة إلى الثّورة الليبية، تحية إلى بنغازي، تحية إلى البيضاء والزاوية والزّوارة، تحيّة إلى طرابلس والزّنتان ومصراتة وجادو وسرت وكلّ المدن الليبية، تحيّة إلى ثوّار الديمقراطية وشهداء ليبيا
الجريحة..

تحيّة الى آهاتها الخافتة ومعتقلاتها الموحشة وشعبها الذي يشتاق إلى الغناء لنار وطنهم الحبيب.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها