سيناء.. من المستفيد من الجريمة؟

ليس الأمر بالتعقيد الذي قد يبدو عليه للوهلة الأولى، لكن تشابك المصالح وتعدد الفاعلين وتداخل الروايات الرسمية وتناقضها، ومنع الإعلاميين و الأجانب منهم بالخصوص من تغطية الأحداث في سيناء بعد إعلان حالة الطوارئ عام 2014، قد أرخى على المشهد أستارا مضلِّلة تحجب رؤية الواقع بألوانه الطبيعية وأشكاله المتناغمة، نقول هذا لنطرح السؤال الأول الذي يطرحه المحققون في الجرائم الجنائية، من المستفيد من الجريمة؟

فالنظام المصري هدفه الأول أن يستمر في حكم مصر ويؤَمِّنَ وضعا مريحا يخلصه من “طفيليات” الثورة التي تهدد بإعادتها جذعة في أي لحظة، العصابات والدوائر التي تحكم قبضتها على الجيش المصري وتحتكر معظم النشاط الاقتصادي والاجتماعي والمعنوي للقوات المسلحة، دهاقنة الجنرالات وأبناؤهم أرباب الشركات والمصانع وإمبراطوريات الإعلام، أنشطتهم المشبوهة في المتاجرة بالسلاح والتهريب، هؤلاء لا يمكن أن يسمحوا بتشكل بيئة سياسية واجتماعية من شأنها أن تنتج حالة ثورية ومدنية تعيد المشهد الثوري الذي تمخضت عنه ثورة  25يناير، هي بالنسبة لهم حرب وجودية، وما داموا قادرين على إسكات خصومهم؛ فلن ينتهوا حتى يخرصوا جميع الأصوات التي تطالها آلة القمع.

في الجزائر أثبتت سياسة إخراج بَعابِع الإرهاب الضارية من قمقمها، وإطلاقها على المدنيين؛ نجاعة في إخماد لوعة شعب كريم ثائر بفطرته لمدة تزيد عن عشرين عاما، بل جعلته يقبل بحكم رجل مقعد نصف ميت يعلمون جميعا أنه لا يملك من أمره شيئا، الحكم بالرعب، الإرعاب وهو فوق الإرهاب وأخسُّ منه، تلك التفاصيل البالغة في السادية والإيلام، أعمال تنخلع لها قلوب المواطنين حتى يصبحوا وأسمى ما يطمحون إليه هو أن يأمنوا على أرواحهم وأرواح ذويهم ويرضون بالجوع والعراء والمرض كأخف الضرر…كالذي يختبئ من المطر تحت الميزاب.

فكلاهما عسكر النظام وعسكر الإرهاب يعمل لصالح الآخر ويضمن بقاءه رغم العداء الظاهر، النظام المصري رغم كل ما حدث ويحدث يرفض إدانة التراث الفكري والأدبي الذي يتغذى عليه الإرهابيون، فوكيل الأزهر، رغم البشاعات المنقطعة النظير للأعمال الحمراء التي يتفنن الإرهابيون في رسمها برذاذ الدم، يرفض تكفير هؤلاء السفاحين حتى من باب التكفير الإنساني. بقاء هذه الدوغما وصيانة إديولوجيا الإرهاب من أي خدش أو تجريم هو مبدأ استراتيجي من مبادئ الاستبداد، استمرار عمليات الإرهاب يضمن دعما شعبيا اضطراريا للسلطة الفاشية، يبقي على حالة اللاحرب واللاسلم التي تضفي على النظام العسكري شرعية الوجود بداعي الحماية ومحاربة الإرهاب… قد يعترضك بلطجي، فتستغيث ببلطجي أعتى منه، ينجدك الأخير من قبضة الأول، لكنه لا يلبث يتخذك  خَوَلا وخادما، يحتلّ أملاكك يشاركك في أهلك ويأكل من عرقك، وإذا اعترضت بطش بك وهدّد بتسليمك للبلطجي الأول.

فبعد اتفاقية السلام مع إسرائيل أصبح الحكم العسكري- في دولة مثل مصر، لها تقاليد مدنية عريقة في الحكم، وعرفت حياة سياسية مبكرة بين شعوب الشرق الأوسط – يسبب حرجا بالغا لجنرالات الجيش المتهمين بالاستبداد والفساد، الجيش في حاجة الى حروب صغيرة في متناوله، وصراعات عصاباتية ودماء تروي شرعيته في الحكم، والتنظيمات الإرهابية تقدم له البضاعة اللازمة وبالأسلوب الذي يطلبه، ومن ناحية أخرى رَفْض إدانة الأفكار المتطرفة وتنقيح كتب التراث من الأثر الوهابي التكفيري، يستمر في مدّ الإرهاب بعناصر جديدة، وإغنائه بالموارد البشرية.

ستظل هذه العمليات في اتساع و انحسار، إلى أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل سقوط مبارك، حيث يرتفع الرئيس إلى مرتبة الْمَلِك سليل الملوك العسكريين، يمدد للرئيس في الحكم تمديدا على الدوام، تقام أعراس انتخابات صورية، لا يُقبل أن يقوم له منافس في الانتخابات إلا إذا كانت تلك المنافسة ستعزز موقفه وتمنح نوعا من الشرعية إلى العملية الانتخابية، ويبقي النظام على حالة الطوارئ التي أضحت أسلوب حكم اعتيادي في مصر العسكرية.

عقيدة الصدمة، أو النصر بالرعب، تعيد تشكيل موقف المواطن من الحكم، تخضعه إخضاعا إلى إرادة السلطة القائمة، تنحدر بتطلعاته إلى سفح المطالب الضرورية و الخُبْزيّة، وتضيق دائرة المعارضة وأعمال المجتمع المدني لتنحصر في توجيه النقد البارد إلى الطبقات الدنيا لدوائر الحكم؛ مثل مجلس النواب وأعضاء الحكومة من المدنيين الصوريين، وفِي مجالات ثانوية غالبا ما يثيرها الإعلام الرسمي ويبرزها.

ينشأ من عقيدة الصدمة وأعمال الرعب الوحشية، إحباط تام للضمير الجمعي، تخبو جذوة الإرادات الشخصية، وتضمحل روح المبادرة الوطنية، ويستقر قبولٌ نفسي أو استعادة في اللاوعي الشعبي لفكرة الدولة التي تحكم الدولة، الحكم العضوض الجبري الذي تفرضه طبيعة السلطة، يتم التطبيع مع صفقة الابتزاز الضمني؛ الأمن والسلم الاجتماعي، مقابل الرضوخ التام للاستبداد والحكم العسكري.

فالنظام بمقتضيات هذه الصفقة فوق العادية؛ سوف يحمي الشعب من همجية الإرهاب وأعمال التقتيل، في المقابل على الشعب أن يكف تماما عن مطالبه الثورية في حكم مدني ديموقراطي وحياة حزبية و سياسية حقيقية، هذه طبيعة الصفقة التي يتم إبرامها اليوم مع الشعب، وعلى الشعب أن يستوعب هذه الرسالة بأي وسيلة كانت، وإذا استوعبها يبقى عليه ألا يدعم من يحاول نقض هذا الميثاق من التيارات المعارضة، عقيدة الصدمة تجعل الشعب يزدري نفسه ويزدري من يعارض من يزدريه، وينفر من حقوقه الأساسية، يتنكر لها ويكبتها بين عطفيه.

اليوم لم يعد أمام جنرالات الجيش أي خيار غير إرهاب الشعب ومساومته على أمنه بوسائل غير شريفة، بعد أن استهلكوا تماما رصيد الجيل الوطني الذي حرر الأرض المصرية في حرب 73، وأصبحوا يدركون أن أي حراك شعبي قادم سوف يتجه مباشرة ودون مواربة إلى المؤسسة العسكرية التي كانت مقاومتها للتغيير والانتقال الديموقراطي سببا في كل الأحداث الدموية والفوضى المتعمدة التي أعقبت ثورة 25 يناير، ليس الإخوان ليس شباب الثورة ليس الفلول ليس رجال الأعمال، بل هم وحدهم لا غيرهم أصحاب القبعات الكاكية والياقات البنية والبيادات السود.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها