التنور العراقي

عند مغادرتي للمطعم لآخر مرة ودعت « بو علي» وأنا أعانق فيه حين ودعته تاريخ العراق وجراحه وتراثه الفني العريق، و في لساني بقايا نكهة حلوة أصيلة أصالة بلد تمتد حضارته لآلاف السنين.

 و أنا أتجول بأحد شوارع أكادير، توقفت عند مقهى وسط المدينة لتناول فنجان قهوة، المكان  من الخارج يعطي الانطباع أن الأمر يتعلق بمقهى كباقي المقاهي، لكن كانت المفاجأة أنه مطعم صغير يقدم وجبات ومشروبات عراقية، خاصة شاي أبو الهيل الذي تغنى به الفنان كاظم الساهر في واحد من أحلى مواويله: « حنيت للمقهى القديم وشاي أبو الهيل…» وأنت تلج مطعم التنور – هذا هو الاسم الذي اختاره أرباب المطعم لمطعمهم- لأول مرة، أول ما يقع عليه نظرك هو كهلان أنيقان جالسان في ركن قرب المطبخ، تدرك من سحنتيهما قبل أن يبادرا بالكلام أنهما من بلاد الرافدين. هما أخوان يخيل إليك من فرط الشبه أنهما توأمان، يميلان للقصر بعض الشيء، يتحدثان ويرفقان حديثهما بحركات متناسقة تسترعي الانتباه وتبعث على الاحترام. في الجهة المقابلة للباب كتِب بخط عربي: « مأكولات عراقية و شرقية »، لكن بلون أسود داكن ممزوج بأحمر فاقع، كأن الخطاط يرثي أمجادا من الماضي أصبحت في خبر كان. على جدران المطعم لوحات صغيرة منحوتة، تمثل نماذج من تراث العراق القديم. أغلب رواد المطعم من المشرق العربي خاصة من لبنان ونادرا ما يقصده زبون محلي.

أخبرني أبو علي أنه مهاجر بإنجلترا، يملك هناك مطعما مماثلا لمطعم التنور الذي افتتحه بأكادير بداية عام 2013. اللوحات المنحوتة من اختياره و من إنجاز فنان مغربي كلفته حوالي 3000 دولار. في بداية المشروع أشرفت زوجته على تدريب الطباخين المغاربة على إعداد الوجبات العراقية الأكثر شهرة كأكلة “القوزي” وهي عبارة عن لحم مع رز ومرق فاصوليا وسلطة عراقية، وأكلة أخرى اسمها “تشريب” بامية مع الخبز وتكة لحم مع رز.

وجود صاحبي المطعم، بو علي وأخيه، يضفي على المكان نكهة خاصة؛ فهما يقضيان جل الوقت فيه، يدردشان مع الزوار (لكن على ما بدا لي فأبو علي هو الأكثر التصاقا بالزبائن ) ويحتسيان فناجين قهوة ؛ خلال المرات التي ترددت فيها على المطعم لم ألحظ أنهما يتناولان الشاي العراقي؛ لهذا تفسير، فقد أسر لي أحد المستخدمين (عددهم عشرة وكلهم مغاربة ) إن الشاي يُجلب من إنجلترا وتضاف له حبات الهيل مع أعشاب أخرى. لذلك  لربما يفضل أصحاب المطعم الاحتفاظ بالكميات المتوفرة للزبون الراغب في تذوق هذا المنتج العراقي المتفرد.  يقدم إبريق الشاي للزبائن بثمن رمزي.

سألني أبو علي إن كانت الخدمات تروقني، فقلت له : « كل شيء على ما يرام إلا شيئا واحدا. » قطب حاجبيه وسألني بشيء من القلق: « ما هو ؟ » قلت : « لا تقلق يا صاحبي، فقط لاحظت غياب الموسيقى العراقية. أين أغاني وأبوذيات سعد الحلي، ياس خضر، حميد منصور،  و سعدون جابر؟» أجابني ضاحكا وفي عينيه يلمع وميض من الرضا :« شلك إنت بهدول العمالقة. إنت بعدك شباب !» خرجت وأنا أدندن كلمات لأغنية سعدون : « صغيرون يا بعد أهلنا وفراﮔك شلون » وفي قلبي غصة لفراق صغيرتي التي تسير بخطى وئيدة في هذا العالم اللئيم، بعيدا عن عيني.

عند مغادرتي للمطعم لآخر مرة ودعت « بو علي» وأنا أعانق فيه حين ودعته تاريخ العراق وجراحه وتراثه الفني العريق، و في لساني بقايا من نكهة أبو الهيل، نكهة حلوة أصيلة أصالة بلد تمتد حضارته لآلاف السنين، حتى قال أحد شعرائه الشعبيين: « لك العراق اسمه يهز السموات…»

 شكرا لابني الرافدين على تواجدهما بأرض السوس الأقصى، وشكرا للعراق الذي علمنا كيف نكتب لنشكر الناس الذين يستحقون الشكر.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها