بين المؤامرة والانتفاضة الثالثة!

قرار نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يعني عملياً انتهاء الدور الأمريكي كوسيط لعملية السلام في الشرق الأوسط، ويعني عدم إمكانية قيام دولة فلسطينية حسب القرارات الدولية.

ما إن خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترمب معلناً نقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الصهيوني إلى القدس، واعترافه بالمدينة المقدسة عاصمة للكيان المحتل، حتى انطلقت ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة من مختلف أنحاء العالم بين الاعتراض والأسف والقلق البالغ، وكأن ما أعلنه الرجل مفاجأة أو شيء جديد وحدث غير معتاد، أو كأنه وليد اللحظة ولم يتم اتخاذه والتمهيد له منذ فترة ليست بالقصيرة.

النية مبيتة يا سادة منذ زمن وتم التنفيذ على مراحل ولمن لا يعلم وغير المتابع هناك موافقة الكونغرس ومجلسي النواب والشيوخ على التوالي عامي 1990 و1992 على كون القدس يجب أن تبقى مدينة موحدة وهي غير قابلة للتقسيم، ثم رسالة وجهها 93 من أعضاء مجلس الشورى الأمريكي في مارس/آذار 95 إلى “وارن كريستوفر” وزير الخارجية وقتها يطالبونه فيها باتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل السفارة إلى القدس، مستغربين كيف لأمريكا أن تتخذ سفارات لها بكل عواصم العالم باستثناء إسرائيل “صديقتنا الديمقراطية وحليفتنا الاستراتيجية”، وهناك أيضاً قرار وقع عليه الكونغرس الأمريكي في 8 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1995 ينص على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، فقد أعلن القانون أنه “ينبغي الاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة إسرائيل” وأنه “ينبغي تأسيس سفارة الولايات المتحدة في القدس في موعد أقصاه أيار/مايو 1999″، لكن كل من تولوا رئاسة أمريكا منذ ذلك الوقت لم يجدوا الوقت المناسب لتنفيذه ومنعهم من هذا اعتبارات وعوائق داخلية ودولية، رغم أن قرار الكونغرس ملزم، لكنه تضمن بنداً يسمح للرؤساء بتأجيل نقل السفارة ستة أشهر لحماية “مصالح الأمن القومي”، وقام الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون كلينتون وبوش وأوباما بصورة منتظمة بتوقيع أمر تأجيل نقل السفارة مرتين سنوياً، معتبرين أن الظروف لم تنضج لذلك بعد، وهذا ما فعله ترمب في حزيران/يونيو الماضي.

ويبدو أن “ترمب” لم ينتظر الظرف المناسب لتنفيذ القرار بل خلقه بنفسه وهل هناك أفضل من وضع كهذا: الخليج يعاني أزمة عاصفة تهدد منظومة مجلس التعاون الخليجي فهناك ثلاث من دوله “السعودية والإمارات والبحرين” مع مصر تحاصر قطر منذ شهور، وعقد السعودية والإمارات لاتفاقات ثنائية في شتى المجالات خارج مظلة المجلس، مصر واقعة في براثن انقلاب عسكري دموي غاشم لا يستطيع المصريون تحت سلطته الخروج للتظاهر من أجل حقوقهم وحريتهم ومأساتهم هم، فما بالك بمآسي ومصائب غيرهم، ويتمتع النظام الانقلابي بعلاقات متميزة لم يسبق لها مثيل بين الجانبين وصفها قائد الانقلاب العسكري “عبد الفتاح السيسي” بنفسه بالسلام الدافئ، ودعا لتوسيع اتفاقية السلام مع اسرائيل لتشمل دولاً عربية أخرى، والسعودية في مخاض تأسيسها الرابع العسير والغامض والمعقد والذي بدأه محمد بن سلمان بمباركة ورضا أمريكي ترمبي عن كل ما اتخذه من قرارات لتمكينه من اعتلاء العرش السعودي وهو اليوم في وضع حرج وحساس ولا يمكنه فقد الحليف الأمريكي عبر إغضاب ومخالفة ترمب في قراره، فكان من الطبيعي أن تصمت قيادتها ومفكريها ونخبها، بل تروج لتكون هناك علاقة مباشرة مع الكيان عبر شخصيات نافذة و كتاب ومفكرين مقربين من السلطة لدرجة أن أحدهم كتب نصاً “إذا عقد السلام مع إسرائيل فستصبح المحطة الأولى للسياحة السعودية”، يأتي هذا في وقت منع الكثيرين عن الكتابة أو زج بهم في المعتقلات ومنعوا من السفر لمجرد التزامهم الحياد أو الدعوة على استحياء لإنهاء الأزمة الخليجية و فك حصار قطر.

ثم أعلنها صراحةً محلل اسرائيلي على القناة العاشرة الإسرائيلية حيث قال نصاً “ترمب تشاور مع مصر والسعودية حول القرار وتوقيت تنفيذه، وتوقعه أنه القرار لن تقابله إلا احتجاجات محدودة يمكن احتوائها”، ويتزامن هذا مع وضح حرج لإدارة “ترمب” التي تلاحقها جهات التحقيق الأمريكية حول اتهامات بالتواصل مع روسيا بشكل غير قانوني وتدخل روسيا للتأثير على نتيجة الانتخابات التي أتت بترمب لسدة الحكم.

لن نتكلم هنا عن انتهاك ترمب لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن بخصوص فلسطين المحتلة عامةً والقدس بصفة خاصة وأهمها وعلى رأسها قرارات مجلس الأمن رقم 252 (1968)، 267 (1969)، 465 و476 و478 (1980)، 2334 (2016)، وتؤكد قرارات المنظمة الدولية أن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ولكن متى احترمت الولايات المتحدة قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة فهي حين تعجز عن استصدار قرار من المنظمة الدولية فإنها تسعى لتنفيذ ما تريد بشكل منفرد أو مع حلفائها كما حدث في غزو العراق 2003 على سبيل المثال لا الحصر.

لكن من ناحية أخرى اتخاذ “ترمب” قرار نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يعني عملياً انتهاء الدور الأمريكي كوسيط لعملية السلام في الشرق الأوسط، حيث إن إعلانه هذا يعني عدم إمكانية قيام دولة فلسطينية من الأساس حسب القرارات الدولية والاتفاقيات التي ضمنتها أمريكا نفسها ووافقت عليها، وتحرك ترمب وحلفاؤه بشكل منفرد، ما أعطى الفرصة لتكوين مواقف وتحالفات أخرى مناوئة ومعارضة لقراره، رأت فيه تهديداً مباشراً لها ولمكانتها ويقضي على هامش المناورة البسيط لديها كملك الأردن عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس على سبيل المثال، وأيضاً هناك الموقفان التركي والقطري الرافضان للقرار بشكل واضح وقاطع، وأن القرار ينذر بالمزيد من التوتر في المنطقة ويهدد بشكل مباشر القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، ولن تتردد دول مثل ايران والعراق وسوريا وحزب الله اللبناني في التحرك من أجل استغلال الوضع لتحسين صورتهم في المنطقة، ناهيك عن الموقف الأوربي والغربي الذي بدأ يتململ منذ مدة من سياسة الهيمنة الأمريكية والقرار المنفرد خاصةً منذ وصول ترامب لسدة الحكم.

وأيضاً ربما أغفل أو نسي ترمب ومستشاروه في البيت الأبيض وحلفاؤه في المنطقة من دانوا القرار في العلن ودعموه من تحت الطاولة كما وضح التليفزيون العبري بحديثه عن مشاورات ترمب مع قادة مصر والسعودية حول القرار، نسي هؤلاء جميعاً أن القدس بالذات لها مكانة خاصة وقدسية عند العرب والمسلمين بشتى انتماءاتهم ومذاهبهم وتوجهاتهم السياسية وإنهم إن فرقتهم خلافاتهم السياسية والمذهبية تجمعهم القدس من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه.

وتبقى الكلمة الفصل والأكثر أهمية للشعب الفلسطيني الذي أثبتت التجربة أنه كلما زادت عزلته ازداد عناده وقوته وتوحد صفه ضد المحتل الصهيوني، فالقدس قضية لا يمكن أن يختلف عليها حتى الفرقاء كحركتي فتح وحماس، اليوم هو الجمعة الموافق للذكرى الثلاثين للانتفاضة الأولي وسيرد الشعب الفلسطيني عملياً وعلى الأرض على قرار “ترمب”، فقد طالبت القوى والفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية الفلسطينيين للخروج في مسيرات غاضبة احتجاجاً على القرار الأمريكي، كما دعا إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، الخميس، صراحةً، إلى إطلاق “انتفاضة” جديدة، أسماها “حرية القدس”، تبدأ الجمعة، للتصدي للقرار الأمريكي الذي وصفه بـ”الظالم”، وليس ببعيد إجبار الفلسطينيين لإسرائيل على إزالة الحواجز الإلكترونية التي نصبتها على مداخل البلدة القديمة، تلك هي ردود أصحاب الدار والأرض من دون دبلوماسية ولا مناورة وفي القدس نفسها التي كانت وما زالت وستظل عاصمة الفلسطينيين ومحط أفئدة وقلوب العرب والمسلمين.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها