كي لا ننسى

تمر علينا الذكرى تلو الذكرى، والنكبة تلو النكبة، وكما ملأت حياة الشعب الفلسطيني بالنكبات والنكسات، فإن حياة هذا الشعب حافلة بتضحيات والنماذج والقدوات، وفي ظل الحديث عن المصالحة الفلسطينية والمشاركة السياسية، نقف لنتحدث عن أكثر نموذج ناجح للشراكة السياسية على الشارع الفلسطيني.

في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وتحديدا في السادس منه من العام 2001م ثلاثة شبان فلسطينيين يسيرون على طريق ترابي يفصل شارع الالتفافي حول مدينة نابلس وقرية تل التي توصل إلى داخل المدينة، ويعرف هذه الطريق باسم طريق السعاديين لصعوبته، ولمن يتساءل لماذا يسلكون هذا الطريق، فالجواب لمن لا يعرف أن مدينة نابلس كانت تحت الحصار الخانق، ويعتبر هذا الطريق مسلك عام يقصده أبناء الشعب الفلسطيني أثناء الدخول أو الخروج من نابلس، ومع ذلك كان هذا الطريق تحت المراقبة المستمرة ونقاط التفتيش الدائم والمستمر، وأخرى متنقلة باتت تعرف بنقاط الطيارة، ولكن ما يميز الشبان الثلاث في ذلك اليوم، أنهم تعمدوا الابتعاد عن السير العام للمواطنين، بالإضافة إلى سيرهم المسرع ومحاولة التواري عن الأنظار.

كان من السهل لنقطة تفتيش الاحتلال المقامة على رأس الجبل في منطقة تعرف باسم المربعة، تفصل بين قرية تل وقرية بورين وعراق بورين وأخيرا مدينة نابلس، فلاحظت سير الشبان الثلاثة، وأسلت دورية عسكرية إسرائيلية لملاحقتهم وإيقافهم، وعندما وقفت الدورية على مقربة من الشبان الثلاث خرج ضابط في جيش الاحتلال وأمرهم بتعريف أنفسهم، ولم يكن غريبا رد فعل الشباب الثلاثة، من أخذ موقع للاشتباك وفتح نيران أسلحتهم الرشاشة باتجاه الجنود، ما أسفر عن عدة قتلى في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي والعديد من الجرحى.

كيف لا وهم من أبناء الشعب الفلسطيني من حملوا أرواحهم على أكفهم وساروا إلى الموت بدون خوف، كيف لا وهم من نجحوا بالانسحاب قبل ساعات من أرض المعركة قرب بلدتهم دير استيا بعد اشتباك استمر لدقائق لم يعترف به أحد إلى الآن ولم يتبناه أحد، ولا يعرف عنه شيء سوى سماع إطلاق الرصاص قرب البلدة عقبة حملة شرسة للبحث والتحري عنهم، كيف لا وهم المطاردون للمحتل الإسرائيلي منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

بدء الاشتباك واستمر ساعات، وسُمع صراخ الجنود وأُجبرت الاحتلال على استدعاء المساندة، حتى بلغ عدد الجنود الإسرائيليين في أرض المعركة قرابة العشرة آلاف جندي حسب بعض الروايات، ولم تكن الدبابات بعيدة عن المشاركة وتقديم التغطية، وكذلك المدفعية، ومن الجو ساندت المروحيات الحربية الجيش على الأرض، ومع ذلك صمد ثلاثة رجال بأسلحة خفيفة لساعات وساعات.

خرجت قرية تل في مظاهرات مساندة علها تساعد الشباب الثلاثة على الانسحاب، وما هي إلا لحظات حتى سمع صوت الرصاص من خارج أرض المعركة، قيل إن محمد ريحان القسامي حاول أن يقدم غطاء ناري للشبان الثلاثة لعلهم ينجحون في الانسحاب من أرض المعركة، ويعد تدخل محمد ريحان سببا رئيسيا في كشف غطائه ومكانه مما تسبب في نجاح المحتل الاسرائيلي بمحاصرته وتصفيته ويرتقي شهيدا بعد هذه المعركة بأيام.

حل السكون وما عاد يسمع صوت الرصاص، توقفت الطائرات عن التحليق، وما عاد يسمع صوت القذائف، وتقدم ناطق الرسمي ليعلن مقتل ثلاثة شباب فلسطينيين، في وجه عابس وكأنه يعلن هزيمة الجيش الإسرائيلي، ويبقى أسماء الشبان الثلاثة يخلد كأبطال، ولا يمكن لمن عايش القصة أن ينساها، بل سيرويها لأحفاده، لتكون معركة تل تخليدا لشهداء دير استيا، وطريق يوضح معالم الوحدة الفلسطينية.

لم يكن ثمة مانع بين إياد الخطيب قائد المجموعة وابن كتائب القسام ويحمل رتبة جنرال، من العمل مع جمال ملوح ابن كتائب العودة الجناح المسلح لحركة فتح، ولا ننسى رفيق درب على أبو حجلة ابن حزب الشعب الفلسطيني، الذي انضم إلى إخوته كي يلحق بدرب أخيه الشهيد نهاد أبو حجلة، الذي ارتقى في الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

وكما عودتنا العادات الفلسطينية فإن العطاء لا يجزى إلا بالعطاء، تأبى بلدة تل أن تروى ترابها بدماء شباب دير استيا دون رد الجميل، فما هي إلا أيام حتى يمر عاصم ريحان، شقيق الشهيد محمد ريحان، على أرض دير استيا، تحديدا كان يزور مغتصبة عمنوئيل الصهيونية المقامة على أرض البلدة و يباغت الجميع في عملية نوعية استمرت لساعات، و بقي صامدا لوحده على أرض المعركة حتى سقط شهيدا، فكان العطاء بالعطاء والدم بالدم وبذلك يتنافس المتنافسون، رحم الله شهداء الأمة، وأصلح حال الجميع ووفقنا إلى ما فيه خير للجميع، والصالح العام. كي لا ننسى عظماء أمتي. 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها