رحلتي مع “بلفور” من لندن إلى أبو ظبي!!

مات آرثر بلفور في 19 من مارس/آذار 1930 وبقي وعده وأراه حياً مع كل محاولة لطمس الحقيقة، مع كل مرة ينطق فيها مصطلح “دولة اسرائيل” مع كل رفرفة لعلم الكيان الصهيوني في سماء عاصمة عربية

ماذا تعني لك “فلسطين”؟  ما هي مكانة “القدس” في قلبك ووجدانك؟  الإجابة البديهية لأي عربي ومسلم فلسطين هي قضيتي وأرضي وموطن أبناء عمومتي وإخوتي”مسلمين ومسيحيين”،  ومعراج الرسول الكريم إلى السماء وإليها تهفو روحي وأقصاها كان قبل الكعبة قبلتي.

تلك هي الإجابة البديهية ولنكن أكثر دقة ونقول الإجابة “النموذجية”،  فقد اختلطت الأوراق، وعدد البيادق يزداد في محاولة لطمس تلك الإجابة وتغييرها وتفريغها من مضمونها،  لكي تتحول البديهية واليقين وسرعة الرد إلى تفكير ونقاش وشدٍ وجذب،  لينشب الخلاف وتزداد الحوارات والنقاشات بين فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر وفلسطين المتناقصة مساحتها شيئاً فشيئاً فمن 45% حسب قرار الأمم المتحدة181 لسنة 47 إلى 22% حسب اتفاق أوسلو 93 و الذي اعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بأحقية الكيان الصهيوني في العيش بسلام واعترفت بدولته على 78% من مساحة فلسطين التاريخية،  وتأجلت القضايا المصيرية كالقدس الشريف واللاجئين والمستوطنين والمستوطنات وغيرها.

خاض الكيان الصهيوني ضد الأمة العربية عدة حروب في 48،  67،  73 و حرب لبنان 82 وكلها من أجل تأمين تواجده على أراضينا المحتلة في فلسطين والتوسع لإحتلال ما يؤمن وجوده هذا ويبذل كل ما في وسعه ليجبر العرب على قبول هذا الوضع والرضوخ له والتعايش والتطبيع مع المحتل.

تخلى الكيان الصهيوني عن سيناء لكن بعد عقد معاهدة سلام في كامب ديفيد 78، خرجت مصر على إثرها من الصراع العربي الصهيوني وكسب الكيان تحييد القوة العسكرية والبشرية العربية الأكبر والملاصقة لحدوده،  واستدار ليعقد مثيلتها مع الأردن في وادي عربة 94 وكسب من خلالها تحييد الأردن المتواجد على أرضه العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين والوصي على المقدسات الإسلامية في القدس الشريف تطبيقاً لأحد بنود قرار مجلس الأمن رقم  242 لسنة 67،  وما زال الكيان يفرض سيطرته على هضبة “الجولان” السورية الإستراتيجية منذ نفس العام وحتى يومنا هذا مما يضمن له التفوق وصد أي هجوم محتمل من قبل سوريا “التي تمزقها الصراعات منذ اكثر من 6 سنوات”،  ويؤمن الكيان نفسه بقوات دولية على الخط الأزرق بين فلسطين المحتلة ولبنان.

قد يعتقد البعض أن الهزيمة العسكرية وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح نهاية المطاف وهذا غير صحيح فالأخطر منها هو الهزيمة النفسية واليأس وفقدان الأمل والشك في حتمية الإنتصار ورجوع الحق لأهله واللاجيء والمشتت إلى وطنه،  القبول بما يفرض عليك وكأنه أمر محتوم لا فرار منه والأدهى والأَمَر من هذا كله أن تجد البعض من أبناء جلدتك هم من يحاولون إقناعك بهذا وليس عدوك الصهيوني الواضح الذي يتمتع اليوم بحصد الغنائم بعدما نجح “مؤقتاً” في زرع اليأس في قلوب البعض واشترى ذمم قلة لتروج له وتتغني بصحبته،  واعتلى منصات البعض ليعلن عن نفسه عليها ويؤكد تمدده وسطوته

 100عام،  قرن كامل مرت على الوعد المشؤوم وعد “بلفور”،  وعد المستعمر الذي لا يملك للمغتصب السارق الذي لا يستحق،  ففي الثاني من نوفمبر/تشرين ثان 1917 أرسل “آرثر بلفوروزير الخارجية البريطاني خطاباً موجهاً إلى المصرفي البريطاني وأحد زعماء اليهود في بريطانيا اللورد “روتشيلد” متضمناً عبارات هي بمثابة الجريمة والخطيئة التي لا يمحو الزمان جرمها وعارها عن بريطانيا “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين،  وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”،  وأدى هذا الخطاب”الوعد” فيما بعد إلى قيام دولة “الكيان الصهيوني” وما تبع ذلك من حروب وأزمات في المنطقة برمتها.

جاء وعد “بلفور” تتويجاً لسنوات عديدة من الإتصالات والمفاوضات بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا،  فقد كان موضوع مصير الأراضي الفلسطينية قيد البحث في دوائر الحكم في بريطانيا بعد دخولها الحرب العالمية الاولى مباشرةً،  وجرى أول لقاء بين حاييم وايزمان،  زعيم الحركة الصهيونية لاحقاً،  وأول رئيس للكيان الصهيوني وبلفور عام 1904 وتناول موضوع إقامة وطن لليهود في فلسطين،  واستغل “وايزمان” فيما بعد علاقاته المتشعبة والقوية بمعظم القيادات السياسية والعسكرية البريطانية بسبب اكتشافاته العلمية وخاصةً مادة “الأسيتون” خلال الحرب العالمية الأولى للضغط في سبيل إصدار الوعد المشؤوم .

نجح روتشيلد في الحصول على الوعد البريطاني بعد فشل مُعَلِمه مؤسس”الصهيونية العالمية” ومؤلف كتاب الدولة اليهودية “ثيودر هرتزل” في الحصول عليه حين إلتقى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني” في يونيو/حزيران 1896 وعرض عليه منح اليهود وطن في فلسطين”مقابل مبلغ مالي ضخم حينها “20 مليون جنيه استرليني” وكان رد السلطان العثماني قاطعاً بالرفض قائلاً “لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض،  لأن هذه الأرض ليس ملك لشخصي بل هي ملك للدولة العثمانية،  نحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بسكب الدماء والقوة ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة والله لإن قطعتم جسدي قطعةً قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين“.

مات آرثر بلفور في 19 مارس/آذار 1930 وبقي وعده وأراه حياً مع كل محاولة لطمس الحقيقة،  مع كل مرة ينطق فيها مصطلح “دولة اسرائيل”،  مع كل رفرفة لعلم الكيان الصهيوني في سماء عاصمة عربية،  مع كل حرف يكتب عن المصالحة مع المحتل المغتصب،  مع كل سطر ينشر وفي باطنه دعوة لنسيان الأرض والتخلى عن العَرض.

مات آرثر بلفور لكني أجزم برؤيته حياً في نظرات الإستغاثة من أهل غزة المحاصرين منذ سنوات،  في عيون أطفال فلسطين في الشتات وفي المخيمات،  مع كل حاجز بين المدن الفلسطينية،  مع معاناة الشعب الفلسطيني لعبور البوابات،  مع كل شجرة زيتون تقتلع،  مع كل روح شهيد فلسطيني وعربي من جسده تنتزع.

مات آرثر بلفور ودفن في لندن” منذ 87 عاماً لكني رأيته منذ أيام قليلة وهو يختال بنفسه في “أبو ظبي”،  مبتسماً متشفياً شامتاً ويخرج لسانه لنا من غياهب قبره وكأنه يقول رحل جسدي وبقي وعدي وها هم أحفاد”ثيودر هرتزل”و”شارون”و”وايزمان” و”جولدا مائير” و”موشي ديان” تقدم لهم حكومة الإمارات العربية المتحدة إعتذاراً رسمياً عن ما رأوه جريمة لأن اللاعب الإماراتي لم يصافح الصهيوني ولأن علم الكيان لم يرفع ونشيده الذي تقطر من نغماته دماء كل شهيد عربي لم يعزف.

مات آرثر بلفور لكني رأيت روحه تسكن جسد “تيريزا ماي” وهي تخطب في البرلمان البريطاني بأن بريطانيا فخورة بدورها في إقامة دولة إسرائيل،  وسنحتفل بمرور 100 عام على وعد بلفور” بكل افتخار،  وتقيم حفل عشاء لنتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني بهذه المناسبة “العار“.

لكن حتماً سيأتي يوم ويدفن فيه وعد “بلفور” ليلحق بجثته،  فبقاء وعده يذكرنا بأن هناك وطن محتل لم يحرر بعد،  وهناك عدو متربص للفتك بنا لا يحفظ أي ميثاقٍ أو عهد.

ستتحرر “فلسطين” وستعود الإبتسامة لأقصاها وتعود طيورها المهاجرة من شتاتها ومنفاها فما ضاع حق وراءه مُطَالب،  فهذا وعد الله الحق الذي لا يدانيه أي وعد.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها