من أسا إلى نواذيبو

 صرحت أوديت، في مقدمة كتابها، أنها تطمح من خلال عملها إلى رسم صورة نفسية وجسدية للبيضان، ووصف طبائعهم خالصةً من كل شائبة.

ولدت أوديت دي بوﻳﮔودو عام 1894 بفرنسا، من أب رسام، وبما أنها كانت شديدةَ الولع بالأسفار واكتشاف الأماكن النائية فقد قررت أن ترفع عصا التسيار متجهةً نحو موريتانيا، فحَطت خلال سنة 1933 بنواذيبو (بورت إتيان بالنسبة للفرنسيين)، قبل أن تيمم شطر الشمال، في اتجاه وادي نون ودرعة. أمضت في المنطقة خمسَ سنوات متقطعة، فقَر بها القرار، آخرَ المطاف، بالرباط إلى أنْ أدركها الأجل المحتوم سنة 1991

خلال مُقامها بأرض البيضان، تنقلت في الصحارى والبوادي راكبةً جَملا، وفي أحيان كثيرة لابسةً الزي التقليدي الرجالي (الدراعة)، التصقت بالسكان، وقفت على عوائدهم، سجلت ما استطاعت تسجيله من أسماء الأدوات المستعملة عندهم بشكل يومي في الخيمة والبيت، وحاولت تقديم ما توصلت إليه في أطروحة جامعية بالسوربون، لكنها لم تفلح، فعن لها نشره في صيغة مقالات بمجلة تُصدرها جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن يُجمَع في كتاب تحت عنوان « فنون وعادات البيضان »، وهو مصنف ضخم نسبيا، يضم علاوة على فصوله الخمسة رسوما توضيحية تخص الجانب الهندسي لدُور البيضان، أشكال الخيام، اللباس المحلي، ضفائر النساء، الحلي التقليدية، نماذج من الأفرشة، بعض الآلات البسيطة، الخ.

 صرحت أوديت، في مقدمة كتابها، أنها تطمح من خلال عملها إلى رسم صورة نفسية وجسدية للبيضان، ووصف طبائعهم خالصةً من كل شائبة، أي مجردةً من كل التغييرات التي طرأت عليها بسبب منطق التطور الذي لا يستثني ثقافةً ولا تراثا، ووضع جرد مفصل لآلاتهم، ذلك أنها لاحظت أن الصحراء، بحكم جغرافيتها شبه المنغلقة، قد استطاعت حفظَ الخصائص الأصلية الأساسية لسكانها، الذين هم، على حد تعبيرها اللطيف، أناس شجعان، صبورون إلى حد بعيد، يمتلكون من الذكاء ما يجعلهم يبتكرون الحلول للمشاكل التي تعترضهم في حياتهم اليومية، بل ويضعون لمسات فنية على هذه الحياة التي يغيب عنها في الغالب الحد الأدنى مما يتطلبه العيش العادي في أماكن أخرى من العالم، وبهذا يضمنون الاستمرارية لأشكال  فنية قديمة، ورموز غريبة ودقيقة لم يعد أحد يعرف لها أصلا ولا تأويلا.

في المساء، أمام الخيمة، التي هي مسكن البيضان الملائم لتقاليدهم وطقسهم وأرضهم، توقد النار فيجتمع حولها الأهالي للتداول في شؤون الجماعة، الاستماع لحكايات المسنين والتمتع بما تجود به قرائح الشعراء وحناجر المطربين، فالشأن السياسي لديهم لا انفكاكَ له عن الفن، لذلك لا تخلو قبيلة من أرباب الصنائع والطرب والشعر، يعمل كل منهم على شاكلته على نقل جزء من  تراثها للأجيال المتلاحقة وترسيخ أمجاد أبطالها الغابرين في الذاكرة الجماعية، الفتية منها على وجه الخصوص.

إلى جانب الخيام، وهي بيوت متنقلة، تتوزع في الصحراء قرى تسمى قصورا، قد يخيل للناظر العابر أن طرازها المعماري لا يستحق أنْ يُحفل به، لكنه جدير بالاهتمام، حسب أوديت، إذْ يجد أصوله في المعمار الكلداني، الآشوري واليوناني، وصنوُه موجود الآن في حضرموت باليمن، مثلا، وبساطتُه الظاهرة إنما مَردها إلى الحرص على الاقتصاد في الإمكانيات التي يتيحها المحيط، والسعي إلى ضمان الملاءمة التامة مع الموقع، الجو، المواد المتوفرة، وحاجيات السكان، وهو  لا يخلو من جمال يكمن في التناسق الهندسي العام، لا في الزخرفة.

في معرض حديثها عن أهم القرى التاريخية بتراب البيضان، أوردت أوديت أسطورة طريفة عن الشعوب الأولى التي يُفترض أنها عمرت أسَا قبل مجيء الإسلام، وقد ارتأينا أنْ نختم هذه الورقة بهذا النص الذي عملنا على نقله من الفرنسية، لأننا لم نظفر بعد بالترجمة العربية التي صدرت في الآونة الأخيرة عن مركز الدراسات الصحراوية بالرباط، والتي هي من إنجاز مترجم من المنطقة.

أسا، أيضا، لها ملكتها الأسطورية. أيتوسى وأبناء عمومتهم تُركُز  يروون أن أقواما غرباء، هم البطريس (؟) والميريس (؟)، قد كانت لهم، قبل مجيء الوثنيين والنصارى، قرى في الجبال، على طول وادي درعة، من المحاميد إلى عوينة تُركُز. انتبذت ملكتهم مع محاربيها مكانا من وادي القبور، على بعد خمسة كيلومترات شرقي أسا، تترقب وصول أعدائها، لكن هؤلاء جاءوا متخفين تحت سعف النخل، ففاجأوها، وأهلكوها ومَن معها. لا أحد يعلم تاريخ وقوع هذا الحادث، ولا من هم هؤلاء البطريس وما كان مصيرهم. تركوا في هذا الوادي بنايات غريبة في شكل أبراج، اتخِذت من الحجارة الضخمة الخالصة، وهي مفتوحة من الأعلى، وكذا كتلا من الصخور يبدو أنها كانت تشكل ضربا من السدود، وهي الآن مشتتة

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها